حاجة غريبة ! لما أقام الخديوي إسماعيل «دارا للأوبرا» وأسماها «دار الأوبراالخديوية»وافتتحها في القاهرة 1869وراح يباهي بها بوصفها «أول دار أوبرافي أفريقيا والشرق الأوسط» ثم استجاب من اجلها لابتزاز جوسيبي فردي الموسيقي الإيطالي ودفع له أجر تأليف اوبرا الافتتاح (اوبرا عايدة) ذهبا خالصا من الخزانة المصرية العامة .. لم يطرح أحد السؤال: فيما كل هذا ؟هل نؤلف نحن أوبرات؟ وعندما صوبت ملوك مصر أبصارها لهذه الدار ودعتها «دار الأوبرا الملكية»ثم شابها الحريق الكبير في 28 أكتوبر 1971 وركضت مصر لإعادة بنائها لم يتوقف أحد ويسأل «ما الحاجة لذلك»! كما إن هذا «التباهي»لم يتوقف بل ذهبت الاسكندرية لتلحق بهم وتشيد «دار للأوبرا»اسوة بالقاهرة! بل ودمنهور»دار أوبرا دمنهور»! وأصبح حالنا ونحن ننظر لهذه الدور الثلاث يبدو وكأننا دخلنا طورالمعاصرة الموسيقية! بل ونافسناأوروبا ذاتها في»أوبراتها» وياللعجب! وإذ أخذنا نتمتم الآن «إن قيام هذه الدورإنما من أجل ترقية الفن المصري»وقف لنا السؤال:»هل لهذه الدور علاقة بالفن المصري؟» ما هوالفن المصري ومامتطلباته ؟ تشكلت الموسيقي المصرية في الواقع المعاصر-من تسع قوالب موسيقية– لاغير: 1 –الموال 2 –الموشح 3 –القصيد 4 –الدور 5 –التقاسيم 6 –التحميلة 7 –الطقطوقة 8 –النشيد 9 - الحوار وهذه التسع هي كأنواع الأدب العربي من قصة، رواية، مقال، نظم شعري ... وقد عملت بهذه التسع ثلاث مدارس موسيقية متعاقبة : • مدرسة محمد عثمان 1840 - 1900 • مدرسة سيد درويش 1900 - 1930 • مدرسة القصبجي السنباطي عبد الوهاب 1930 - 1965 ثلاث مدارس شكلت تاريخنا المعاصر ولم يخرج عملها عن القوالب التسع،بل لم يكن لفنان المصري طريقة غير هذه التسع يصب فيها ألحانه أو غناءه أو عزفه. أكان لدار» الأوبرا « علاقة بهذه ! بالموال أو النشيد أو الطقطوقة! ما علاقة «الأوبرا» بأغنية السينما المصرية؟ هل ساعدت محمد عبد المطلب في تقديم انشودته «بياع الهوي راح فين» ! أو أحلام لتنفيذ «زغروطة حلوة رنت في بيتنا» ! أكانت هي من قدم فايزة احمد أو حليم! هل راعت أو تبنت نماذج الموسيقي الشعبية المصرية المغدور بها مثل «موال شفيقة ومتولي في الحادثة الجرجاوية» ،»السيرة الهلالية» ، «العديد»،»الحجلة البدوية» ،»المجرودة» أوموسيقي رقص الخيل أوأغاني الحصاد ؟لا .. أبدا .. وعلى العكس كانت لنماذج الفن المصري اماكن أخري مختلفة تماما .. صوان كان أو فيلم أو كازينو أو قاعة مناسبات أو راديو، في عرس أو سمر أو عوامة أو حقل أو في فناء جامع مهيب !هل توقف مصير احد الفنانين المصريين على مساعدة «الاوبرا»؟ كلا .. بل ربما ابتعد البعض عنها عمدا حتي لا يفقد جمهوره الحاشد من البسطاء ! إن هذه الدور لم تضع نصب أعينها القوالب المصرية التسع أو فنون الموسيقي الشعبية المصرية!إذ لم يكن لها هدف»ترقية الفن المصري» أو حتي «العناية به « ! فلننظر لحجة دفاع أخري عن «الأوبرا» كأن نقول «لقد قامت هذه الدور لتقديم الأوبرات المصريةالناشئة»! فهل لدينا أوبرات ناشئة؟ الأوبرا هي «المسرحية الممثلة المغناة»والذي قدمته مصر فعليا من هذا النوع أوبرا واحدة هي « أنس الوجود « لعزيز الشوان والتي قدمت مكتملة – وليس جزءا منها – في 1996 ! أوبرا واحدة فقط .. وإن سبقتها تجربتان، واحدة لكامل الرمالي حين سعي لأجل أوبرا «حسن البصري» ثم قدم منها في 1956 فصلا واحدا فقط هوالفصل الثاني! والتجربة الثانية لحسن رشيد وأوبراه «مصرع أنطونيو» والتي قدم منها في 1973 فصلا واحدا أيضا !أي إن مصرتملك فعليا أوبرا واحدة مكتملة وفصلين من اثنتين منفصلتين – ناقصتين! فهل استدعت الاوبرا الواحدة إنشاء ثلاث دور مصرية (في القاهرة ، الاسكندرية، دمنهور) ! إننا لا نستطيع أن نسمي أوبرا واحدة غير مطروقة «أنس الوجود» ومغمورة تماما «أوبرات مصرية ناشئة» بل «تجربة مصرية في حقل الاوبرا» والأمر لميت وقف عند ذلك بل راحت العدوي تطوف الأقطار العربية لتقيم عمان «دار الاوبرا السلطانية» في 2011 وبوصفها «أول دار أوبرا في الخليج العربي» ثم دبي «دار أوبرا دبي»وكأن تراث الخليج العربي من «الصوت» و»غناء البحر» إنما ينسحب الآن ويضمر لأن الغوث «الاوبرالي» لم يأتيه في الوقت المناسب ! وبدورها تذهب دمشق «دار أوبرا دمشق» وكأن استنهاض الإرث السوري من «القدود» و»الموال» و»الميجانا» و»العتابا»مرهون بقيام دار للأوبرا ! أو أن التطور الموسيقي السوري المرتقب والذي سينطلق من هذا الارث يشترط وجود دار للأوبرا ! لو أن فنون مصر والعرب كانت بحاجة ل «أوبرا»لأقامتها وأنشأتها قالبا فنيا، لكن الحقيقة ان غناء «الأوبرا» لم يكن ليشغل المصريين أو أيا من العرب، ومصر لم تضف الي قوالبها التسع أوبرات.. لم تضف أوبرات حقيقية ولا أضافها قطر عربي ولا نظر عربي لهذا بعين الجدية أو حفظ من نماذجها الأوروبية لحنا واحدا يردده مرة ! لم يكن الموال المصري بحاجة لها ولا التقاسيم ولاالقصيد ولا الموشح،بل كانت كلها بحاجة لقاعات العرض الأبسط مساحة والأكثر انفتاحا والأقل كلفة وصرامة. ولا بأس من إقامة مسرح ما لتقديم أوبرات أوروبا في مصر ولكن ليس بهذه الكثرة وهذا الانفاق، إذ ليس من بين المصريين أو العرب من يذهب لأوبرا أو يتذكر أسماء أوبرات!والأوبرا على كل حال غناء مصطنع يصدر من الحلق بينما غناء مصر وبلاد الشرق «طبيعي» يصدر من الصدر كالكلام ! إننا لن نستطيع أن نضع أوبرات حقيقية أبدا فالفن لا يستورد وليس سلعة صناعية قابلة للتبادل ! بل هو منتج روحي، والمنتج الروحي لا ينتقل هكذا لشعب آخر!وكيف نضع أوبرات مع إنها ذبلت وتوارت في أوروبا ذاتها ومنذ حوالي نصف القرن! لاشك أن من سعي لوضع أوبرا عربية إنما كان عليه أن يعمل لنماء النشيد والطقطوقة والقصيد، الموال والحوار الغنائي المصري، وأن يظل ينسج منها جميعا حتي يتخلق لديه شكل أرفع من الغناء ..شكل كتبادل الألحان بين عدة مطربين أوحوار المطربين أوجماعية الغناءلمطربين مختلفين ! كان على الحالم بالأوبرا أن ينظر للداخل (لفنون مصر)قبل النظر للخارج (لفنون أوروبا).. ولا يأخذه هذا التباهي ! أكثر التباهي تعبير عن الضعف وأكثر التواضع تعبير عن القوة. [email protected]