لبنانية الأصل .. مصرية الهوى من مواليد صيدا كانت حياتها دراما ناعمة، سردتها من علو شاهق أتاح لها رؤية إنسانية شاملة .. جسورة عنيدة .. تتحلى بأخلاقيات الصدق والأمانة والصبر .. ظلت مسكونة بالأسئلة الكبرى التى كانت تفتش عن إجاباتها فى أفلامها .. إنها المخرجة التسجيلية المبدعة نبيهة لطفى (1937-2015) التى غادرت عالمنا منذ أيام. تنتمى الراحلة الكبيرة لجيل كان يبحث باعتناء ودأب حتى لو وصل به الأمر للسفر إلى الأدغال بحثاً عن لقطات قليلة تنبض بواقعية الواقع فى فيلم قد يستغرق عرضه 30 دقيقة .. امتازت أفلامها بمنهجية متماسكة فى السرد وزوايا التصوير وما تحمله من دلالات وتواليف اللقطات ودمجها فى إطار عالمها الرحيب المفعم بالحيوية والسحر وفصاحة التعبير بكاميرا تتحول إلى عين ثالثة بفضل رؤيتها .. جاءت إلى مصر هرباً من التعنت السياسى فى لبنان .. حين تظاهرت اعتراضاً على تأسيس حلف بغداد .. فطردت من الجامعة الأمريكية فى بيروت.. ففتحت مصر «حامية العروبة» الباب على مصراعيه لها ولكل الناشطين السياسيين آنذاك .. التحقت بالمعهد العالى للسينما وكانت أول مخرجة من خريجى أول دفعة من طلبة المعهد عام 1964 .. تعددت وجوه هذه الطاقة المتوهجة .. فبالإضافة لأفلامها التى تعد من روائع الأفلام التسجيلية: «لعب عيال وصلاة من وحى مصر العتيقة وشارع محمد على وعشش الترجمان وتل الزعتر وعروستى ودير القديسة كاترين وً كاريوكا وأخيرا شادى عبد السلام» .. قامت نبيهة لطفى بالتمثيل فى أكثر من فيلم من الأفلام البارزة فى تاريخ السينما .. وأشهرها دورها فى الفيلم البديع «رسائل البحر» لداود عبد السيد . حيث قامت بأداء دور «فرنشيسكا» الإيطالية التى نعمت بالإسكندرية حين كانت تحتفظ بروح الإمبراطورية التى تجتذب كل الأجناس واللغات والبحارة وطيور النورس إلى مرافئها العتيقة .. وهى صاحبة إطلالة مميزة أيضاً فى فيلم «باب الشمس» وفى مسلسل الخواجة عبد القادر كان حضورها مشعاً فى عمل يفيض بالروحانيات .. تمتلك مبدعتنا ثراء داخلياً .. استطاعت من خلاله الوصول إلى لب الأشياء ورصدها باحترافية تماهت فيها الفروق بين السينما الوثائقية وسينما الواقع خاصة فى فيلمها الهام «تل الزعتر» الذى يعد أيقونة من أيقونات الأفلام الوثائقية التى صورت واقع المخيمات الفلسطينية عموماً وتل الزعتر بصفة خاصة. استطاعت بحسها السينمائى المرهف الذى ورثته عن الكبار .. الذين عاونتهم فى تأسيس مركز الفيلم التجريبى .. «شادى عبد السلام» كشف الغطاء عن مأساة «التل» الذى تعرض للحصار بعد أن تدفق عليه أكثر من 30 ألف فلسطيني فى يناير عام 1976 .. واعتراض ميليشيا الكتائب لقوافل الطعام القادمة له .. وتعرض المخيم للحصار وقيام رجال المقاومة بحصار مدينة زحلة المارونية واستخدام أهلها دروعا بشرية ورهائن حتى يتم فك الحصار .. ثم دخول القوات السورية طرفاً فى الصراع الدموى الذى استمر لمدة سبعة أشهر وراح ضحيته أكثر من ألف شخص .. باختصار قامت نبيهة لطفى بأهم محاولة لتسجيل الهوس الطائفى والسياسى وشرارات الحرب الأهلية اللبنانية وهى تقدح من زنادها .. فصنعت شريطاً تسجيلاً غاية فى الاقتدار شاهداً على تلك الإطلال التى ستدمنها بيروت وتحترف صناعتها لمدة خمسة عشر عاماً فى مجال الحرب الأهلية وتباعاتها على كل المنطقة العربية .. عمل مضن ووثائق ودراسات ولقاءات وتسجيلات وأبحاث ورؤية محددة لصياغة الواقع .. والتحفيز على تغييره من خلال هذه الصياغة الراقية لعالم مملوء بالكآبة والحزن والعزلة والدمار .. صمت يعقبه تقليب أوراق والتحديق فى مستند أو خطاب ربما كان به المراد.. لحظات مشوبة بالقلق وخدر يهيمن على الشعوب العربية توقظه هذه الفنانة الساحرة التى ترسم بالكاميرا وتنحت بالأزميل كائنات جمالية تشكيلية ضمن شريطها السينمائى الذى يمحى دائماً غبار الزمن بحداثة رؤيتها عن أى موضوع .. حياة كاملة تبعثها من مرقدها من وراء الأحداث والأشخاص والتاريخ. ويعد فيلمها «كاريوكا» عن الفنانة الكبيرة تحية كاريوكا درة أعمالها .. وكيف لا يكون وصاحبته تتمتع بكاريزما ومواهب فنية متعددة وألقاب كثيرة لم تحظ بها فنانة من قبل .. إنها تحية المناضلة السياسية .. صاحبة المواقف النقابية .. الراقصة والممثلة التى حولت الرقص الشرقى إلى رقص تعبيرى أصبح حديث العالم شرقاً وغرباً فى غضون سنين قليلة من احترافها. «كانت واثقة تماماً أن جوهر فن الرقص – شأن مصارعة الثيران – ليس فى كثرة حركات الراقصة وإنما فى قلتها .. وحدهن المبتدئات والمقلدات البائسات من يونانيات وأمريكيات من يواصلن الهزهزة بهدف الإثارة. جمال رقصها يكمن فى تكامله .. كان رقص أشبه بأرابيسك متطاول تحكمه صنعة قد تلجأ بعض الراقصات إلى الحركات البهلوانية أما تحية فلا .. فرشاقتها وأناقتها توحيان بما هو كلاسيكى تماماً بل ومهيب، والمفارقة أنها كانت ملموسة وقريبة كما كانت نائية ولا تطال فى آن معا .. عرفت تحية تقاليد عالمها وكانت تحترمه إلى حد بعيد .. حياتها كراقصة وممثلة فذة كانت حلاً مثالياً لتصريف مثل هذه الطاقات .. «تحية هى تاريخها ذاته .. تاريخ غير موثق» كانت هذه هى كلمات المفكر الفلسطينى الراحل ادوارد سعيد .. الذى صحبته مخرجتنا نبيهة لطفى لمقابلة كاريوكا بناء على رغبته .. فهى فنانته الأثيرة فى فترة الصبا والشباب .. التقت المخرجة المتألقة فهى صديقة للطرفين .. المفكر والراقصة .. ولطالما شغلتها تحية صديقة عمرها بمواهبها المتعددة وكونها جزءا أصيلا من النهضة الفنية التى شهدتها مصر فى الأربعينيات .. واستطاعت نبيهة تحويل قصة أشهر راقصة عربية إلى فيلم بديع انفرد بإلقاء الضوء على مرحلة من بواكير حياة كاريوكا الفنية حين أعادت اكتشاف فيلم «ندوجا» الذى كان مفقوداً وتظهر فيه كاريوكا فتاة فى أدغال إفريقيا .. احتفى شريط الفيلم بوثائق وشهادات نادرة لكبار الأدباء والمفكرين .. ولكن تظل حياة بطلة (شباب امرأة ولعبة الست والفتوة) من أكثر الأشياء جاذبية فى سيرتها الذاتية .. فقائمة أزواجها كانت تضم مشاهير وأعلاما منهم : المخرج فطين عبد الوهاب والنجم الوسيم أحمد سالم وطيار الملك فاروق حسين عاكف ورشدى أباظة والسياسى اليسارى الشهير مصطفى كمال صدقى ومحرم فؤاد وفايز حلاوة .. وحين حاول ادوارد سعيد سؤالها عن سبب تعدد أزواجها تدخلت المخرجة المخضرمة نبيهة لطفى بلباقة لتسألها عن أكثر أزواجها الذى بادلته حباً ؟ فأجابت إجابة قاطعة .. ولا واحد !! وداعاً نبيهة لطفى التى علمتنا أن ما يدور أمامنا قد يكون مفتعلا وليس حقيقياً وواقعياً .. لأنها حياة لا تخلو من التكلف .. فكانت كمبدعة تقبض بكلتا يديها على الجمر لتقدم لنا اللحظة الصادقة.