للريح أن تطلق عواءها فى عالم تتقاذفه المحن. هذه حضارة بنيت على دماء وشتات ومنافى مبدعيها وعلمائها. ما مر اسم من أسمائها اللامعة إلا جثت وراء تفاصيل حياته آلآما,ومحنا شتى,وربما موت أو مقتل بغيض.عاشوا وحشة أزمانهم وأبدعوا.نقول عنهم مؤسسوا الحضارة العربية-الإسلامية وعلومها وفلسفاتها وآدابها وأشعارها وفنونها.وينبتون فى أماكن شتى, ومن جذور عرقية مختلفة,لكنهم الأساس الذى قامت عليه ونهضت به الحضارة العربية على امتداد 15 قرنا من الزمان. تلك البلاد الضائعة اليوم وراء الحروب,والنسيان والتباعد الثقافى والحضارى,أنجبت لنا خيرة الأسماء.بخارى,سمرقند,طاجكستان,أصفهان,تركستان,كركانج,وبحر الخوارزم.أسماء تبدو بعيدة,وغارفة فى النسيان فى زمن الحضارة والثقافة فى القرن الواحد والعشرين,ولكنها كانت منذ ألف عام مهدا للكثير من نوابغة العلوم والآداب,وتناهشتها الحروب آئنذلك,كما تتناهشها اليوم. قضى الحكام والسلاطين والجند,وقضت معهم ممالكهم,وسلاطينهم,وعروشهم, وبيادقهم, وبقت لنا أسماء المبدعين,والصوفيين, والشعراء, والعلماء, والمتكلمين, وبقى لنا جزء من ذخيرتهم, التى ضاع منها الكثير, وماتبقى منه اليوم لا يتصفحه أحد رغم أن أسماءهم تطلق على المدارس والشوارع أحيانا فى مدننا العربية. وللشيخ الرئيس ,رواية تروى,كتبها الفرنسى جيلبرت سينويه فى رواية ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان,وترجمها الشاعر التونسى آدم فتحى ترجمة رائعة مذيلة بالهوامش والتفسيرات التاريخية واللفظية. روى لنا جيلبرت سينويه حياة عصر من الزمان بكل مخاضاته السياسية والإبداعية قبل ألف عام من الآن,وقدم لنا تلك الصورة المفزعة لتاريخ لا يزال يتناهشه الساسة وأولوا الأطماع ويتصدرون المشهد فى كل شىء عبر بلاط الدسائس, والمؤامرات والنفاق وسياسة الترغيب والترهيب والإعتقال والقتل والاغتيال والتشريد والمنافى.وتكون الخسائر فادحة للجميع للحاكم والشعب والعالم والفقيه والمبدع. مازالت الطائفية تأكلنا,والتحزب,والتعصب,وإساءة استخدام الدين,والدموية والوحشية تنحرنا. أبوعلى ابن سينا, مسلم من بخارى, اشتهر بالطب والفلسفة. ولد فى قرية أفشنة بالغرب من بخارى فى عام 980 ميلادى وتوفى فى عام 1037.القرن الرابع الهجرى الذى شهد ولادة أعظم الكتاب والمبدعين والعلماء والشعراء والصوفيين المسلمين والعرب.وكان من أهم كتبه التى وصلتنا القانون فى الطب,وكتاب الشفاء.وقد رافقه فى رحلته لمدة خمسة وعشرين عاما تلميذه أبوعبيد الجوزجانى الذى حفظ مؤلفات معلمه ودونها,وكتب عن حياته أيضا. يقول المترجم أن الجوزجانى وصف لنا قرابة العشرين صفحة ما تعرض له معلمه من ظلم الملوك,وسطوة الأمراء,وتعب الجسد فى مرام النفس الكبيرة.ويبدو ابن سينا من خلال سيرة الجوزجانى شخصية مأساوية جاهزة للتنفيذ الروائى.وكتب سينويه روايته على شكل مقامات بلغت الواحد والثلاثين مقامه.ولكنها رواية تكتمل بشكل فصول هى ما أسماها بالمقامات.ويسرد بأكثر من صوت:الراوى,وإبن سينا,والجوزجانى كاتب ابن سينا.ويستهل عمله فى المقامة الأولى على لسان الجوزجانى الذى يقول عن معلمه:»أحببته كما لا يحب أحد غير السعادة والعدل,فكأنما أحببت المحال.» تتناول الرواية طفولة ابن سينا وصباه فى بيت لأب شيعى وأم من أصول يهودية قروية.بيت علم إلتقت فيه أسماء مبدعى ذلك الزمان مثل البيرونى صاحب كتاب الهند,والفردوسى صاحب الشاه نامة او كتاب الملوك.وفى مدن الشرق القديم تلك,كانت أصداء الترجمات والفلسفة اليونانية وعلومها تتردد من أرسطو وأبوقراط وبطليموس إلى الفارابى والرازى وغيرهم.وكان هناك تعايش لأناس من أديان مختلفة :المسيحين النسطوريين واليهود والزرادشتين والهندوس والمسلمين بالطبع.وقد نشطت الترجمة بين من أسموهم أهل الذمة والزرادشتين والسريان الين نقلوا علوم اليونان وفارس والهند إلى العربية. قام منهج ابن سينا على الملاحظة ,فالتأمل,فالاستناج.وتقاذفته البلدان بسبب الحروب منذ بلغ الثامنة عشرة من عمره.سعى وراء العلم,وعمل بسبب مهاراته فى بلاطات الأمراء والسلاطين والمشافى ,وغرق فى الكتب والمكتبات والكتابة التى لم تتوقف إلا بموته. لم يكن ابن سينا طبيبا وعالما فقط,بل كان فيلسوفا ومتأملا وفنانا وشاعرا وموسيقيا أيضا.كتب فى الفلسفة والروحانيات وعلوم الموسيقى واللغة ,كما كتب فى الطب والتداوى وعلوم الفلك.وربطته صداقات عميقة بعدد من علماء زمانه وأولهم البيرونى ,وأثر على كثير من تلاميذه الذين أصبحوا علماء أفذاذا فيما بعد. وقد كانت حياة إبن سينا قاسية ,عايروه بأمه اليهودية,وكادوا يكفرونه لحرية عقله وآرائه.وفى روايه جيلبرت سينويه أن ابن سينا لجأ لشرب النبيذ للتخفيف عن نفسه,وإلى العشق والنساء,وأنه حاول الانتحار بقطع شرايين يده حين حبس مظلوما ذا يوم فى أحد محابس السلاطين. وكان زمن حروب وشقاق هدد فيه الأتراك حكم الفرس,فى مدنهم وقراهم.وتحطمت الكثير من المدن على يد جيوش محمد الغزى الذى فر منه إبن سينا من بلد إلى بلد. استخدم إبن سينا الأفيون والخمر فى علاج مرضاه وتسكين آلامهم.كما إستخدم علم النفس وعلاج الروح لعلاج البدن.وتعلم تأثير الموسيقى وخصوصا الروحية على النفس متأثرا بنظام البهارتا الموسيقى أو الموسيقى الربانية الهندوسية.كان هناك الكثير من المراسلات بين إبن سينا وصديقه البيرونى الذى كتب له ذات يوم:»إننا لسنا سوى عيدان من القش تلهو بها رياح ولاة النعيم.»وقد كتب له ابن سينا حين ضاق بالمحن التى أصابته إرجوزة قال فيها: «لما عظمت فليس مصر واسعى لما غلا ثمنى عدمت المشترى.» عرف ابن سينا العشق مع جارية رومية أسمت نفسها ياسمينة,وكان قد عالجها وعاشت معه سنينا طويلة ليحرم منها فى آخر عمره ويكتشف أن اسمها مريم وإنها كانت زوجة للخليفة القادر فى بغداد وقد فرت منه.ويكتب جيلبرت سينويه عن ذلك العشق,وتلك العلاقة الطويلة,وملابساتها. وفى سجن فردوخان الذى حاول إبن سينا الإنتحار فيه,وفر منه,ليعود إليه ويقضى فيه أعواما معتقلا ,كتب الكثير من الكتب وأهمها كتابه حى بن يقظان,وكتاب الهداية,وكتاب القولنج,وكتاب الأدوية القلبية.وبعد الهروب إلى أصفهان كتب كتابه الشهير الشفاء وكتاب لسان العرب وكناب النجاة.وحين غزى مسعود ابن الغزنوى التركى أصفهان إستلب كل أعمال ابن سينا ومخطوطاته وأمر «بكل ما له صلة بالشيخ يجب أن يحمل إلى غزنة,أما الدار فيجب أن تدك دكا ويمحى أثرها عن وجه الأرض.»وقد فقد إبن سينا كل أحباءه وأهله,وعشيقته ياسمينة,وقضى مريضا ومشردا وبائسا,ولم يستطع معالجة نفسه حين أصيب بداء القولون الذى إشتد عليه,وكان كتاب الحكمة الشرقية آخر كتبه ,وتوفى فى عام 1037 ميلادى,ودفن فى مدينة همذان. «الإناء المقلوب أبدا لن يملأ!»,هكذا حدث ابن سينا حبيبته ذات يوم دافعا عنها اليأس.كان محمولا بالأمل,والإيمان بحرية الفكر وإجتهاد العلم. وقد قال له معلمه المسيحى حين تشردوا فى الصحراء وغرقوا تحت الرمال,»آن الآوان لأطوى خيمتى ,وأرحل.»لم يستطع إبن سينا أن ينقذ أقرب الناس إليه من الموت امه وأبيه وأخيه ومعلمه,ولم يستطع أن ينجو بحبيبته من مصيرها,ولا استطاع أن ينقذ كتبه ومخطوطاته من السطو عليها,ولم يستطع أن يعالج نفسه وينقذها.لكنه عالج الكثير من الأغنياء والفقراء والملوك والأمراء.ترك وراءه علوما كثيرة,وكانت الكتابة ملاذه وسر وجوده الذى لا زال يتردد بيننا حتى اليوم. ما اكثر علوم حضارتنا التى ضاعت,وما أكثر قرابين الفكر والعلم والأدب فى التاريخ الإسلامى والعربى.اليوم وأنا أرى اسم ابن سينا على كثير من واجهات ويافطات المدارس والمستشفيات والصيدليات والشوارع فى القرى والمدن العربية أعرف,أيضا,أنهم لم يقرأوه ولم يعرفوا عن حياته إلا شهرة الاسم فى الوقت الذى أحيت كتبه وعلومه ومعارفه العلم فى الغرب وجامعات أوروبا لأكثر من خمسمائة عام وحتى اليوم. رأس المفكر,والعالم,والمبدع الحر المهدرة فى بقايا حضارة تحطمت منذ زمن بعيد,وحتى ما تبقى من نصبها يتهشم تحت معاول التكفيريين والجهلة والمتعصبين والسلطويين اليوم,أيضا.