«العقول كسائر الكائنات الحية، تبحث لنفسها عن المكان الصالح لفعلها، فان لم تجده ذبلت وماتت،وضاع الفرق بين ذكاء وغباء» هكذا نبهنا الفيلسوف زكي نجيب محمود مضيفا «..فليس العقل الذكي قطعة من الماس، تضعها في خزانة من صلب الحديد، تحكم اغلاقها، ثم تعاود النظر اليها آنا بعد آن، لتعلم انها مازالت هناك بمأمن من اللصوص، فيطمئن قلبك، بل العقل الذكي شعاع من الضوء يريد لنفسه أن يشق العتمة ليضئ، فاذا أبيت عليه انطلاقة الحركة، انطفأ وانمحى» وبالتأكيد كم من المرات قرأنا وسمعنا وشاهدنا عن عقول «انطفأت» (يا ساتر يا رب) .. وأيضا كم من عقول «فلتت» وبالتالي «فلحت» (والحمد لله) حتى لو كانت بعيدا عنا وحتى لو أسمينا أو وصفنا ما حدث بأنه «هجرة للعقول» أو «نزيف للأدمغة». وبالطبع في أغلب الأحوال « ذنبهم في رقبتنا».. نعم، «الاعتراف بالحق فضيلة». ولا شك أن الحديث عن العقل المضئ والاستعانة به وأيضا الاعتزاز ب«اشعاعه» يأخذنا الى المفكر العظيم د. زكي نجيب محمود أستاذ الفلسفة وصاحب النظرة الثاقبة الفاحصة لحالنا وأحوالنا وأيضا صاحب الأسلوب الرشيق الممتع والنافذ لقلوبنا. زكي نجيب محمود (1905 1993) لكي تعرفه وأكيد يجب أن تعرفه عليك أن تقرأ كتبه العديدة ومنها «تجديد الفكر العربي» و»مجتمع جديد أو الكارثة». خاصة أن له نظرة دقيقة وتحليل عميق وتشريح مفصل لما يوصف بالمناخ المناسب والمشجع والحاضن للتفكير والابتكار.. وأيضا العقل المضئ. وطالما أذكر وأتذكر د زكي نجيب محمود ونظرته وكتبه يجب أن أذكر أيضا أسماء كتب أخرى ربما تحفزنا للتفكير وتدفعنا ل «اشغال العقل» والاحتفاء ب«انطلاق العقول» ومنها «التفكير فريضة اسلامية» لعباس محمود العقاد و»التفكير العلمي» ل د. فؤاد زكريا. وعندما نبحث عن العقل المتحرر والمضئ علينا بلا شك أن نحرك «العقل المتبلد» ونكسر «العقل المتحجر» وأن نتخلص من «أحادية الرؤية».الكاتب والروائي جمال الغيطاني منذ أيام ليست ببعيدة وبعد أن زار الأستاذ هيكل وتحاور معه عقب عودة الأستاذ من رحلة علاج بالخارج طرح في عاموده اليومي «عبور» بصحيفة الأخبار فكرة اعادة النظر في تاريخنا كله، ومن ثم قال «.. ويستدعي ذلك عندي رغبة في امكانية بدء ما يمكن تسميته مراجعات، خاصة أن مثلي يقف على مرمى النظر من الحافة، كم من أمور اعتبرناها مسلمات في بداياتنا ولكنها تبدو الآن على النقيض، كانت تحكمنا أحادية الرؤية، وليس أخطر من الفكر من أحادية الرؤية». كما أنه طرح أيضا حوارا يجمع بين الأجيال ويتطلع للمستقبل ذاكرا «.. سوف يثمر عن أسس قوية للتطور،شرط المكاشفة التامة، والمراجعة الدقيقة المتجاوزة للرؤى الضيقة التي يتخندق فيها كل فريق». وهنا أقول ياريت نقوم معا والغيطاني بعلمه وخبرته يقود النقاش ويدير دفته بتشريح هذه المسلمات وتفتيت هذه الكتل الفكرية من «أحادية الرؤية» و»الرؤى الضيقة» المهيمنة في حياتنا وفي نظرتنا لها .وهذا هو التحدي الحقيقي الذي يمكن البدء منه من أجل الخروج من «أحادية الرؤية» أولا ثم السعى فيما بعد ل«تعددية الرؤية» أو «تعددية الرؤى». التعددية تعني بصراحة التنوع والاختلاف واحترام التمايز والاهتمام بالتميز والاحتفاء بما قد يقوله الغير ويفكر فيه والأهم تعني الثراء الفكري والنفسى والانساني. ووقتها سنقول بملء فمنا «أهلا وسهلا» و»مرحبا» .. بالعقول خصوصا لو كانت تضئ وتسعى لكى تحررنا من الظلمات .. ومن الكهوف وأهلها. من نعم ربنا هكذا كان يقول ويكرر علينا القول عم حسين ان ربنا أعطانا العقل علشان نفكر ونتخيل ونرى آفاقا جديدة و .. أن نبحث عن اجابات عديدة وجديدة في حياتنا .. والأهم أن نخرج أيضا عن ما هو مألوف ومعتاد وممل وثقيل الظل.. والدم أيضا! الكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلو من جانبه يقوم بتذكيرنا قائلا «إن تشابهت الأيام هكذا فذلك يعني أن الناس توقفوا عن إدراك الأشياء الجميلة التي تمثل في حياتهم». كما أنه ينبهنا «متى انتابك احساس مستمر بعدم الرضا، يعنى ذلك ان الله أوجده لسبب واحد فقط ،عليك ان تغير كل شىء وتمضى».وصاحب «الخيميائي» ينصحنا أيضا «اغلق بعض الأبواب في حياتك... ليس بسبب الاعتزاز أو الغطرسة والكبرياء، ولكن لأنها لم تعد تقود إلى أى مكان». كما أن كويلو يريد منا أن نتذكر بأن «السفينة آمنة علي الشاطئ ،لكنها ليست من أجل ذلك صنعت» وألا ننسى أبدا «..عندما تريد شيئاً ما، فإن الكون بأسره يتضافر ليوفر لك تحقيق رغبتك» وبما أن شهور الصيف قد تعتبر فرصة ل«التقاط الأنفاس» أو «تأمل لحالنا وحياتنا» أجد حولي بعض المجلات العالمية والأمريكية مثل «نيويوركر» و«تايم» و«أطلنطيك» و«نيويورك تايمز» وغيرها تقدم قراءات ل«أفكار جديدة» و»رؤى جديدة « تعكس طموحات الانسان وتحدياته وأيضا تطرح «زوايا جديدة» للنظر اليها. وهذا الجديد الذي أشير اليه لا يتعلق فقط بالابتكارات والاختراعات والسلع الاستهلاكية وخطوط الموضة .. بل كما أقول»أفكار جديدة « من ثمار «عقول مضيئة» قد تضئ عقلك أو تحركه لكى «لا يظل آمنا ساكنا كالسفينة على الشاطئ .. لأنه ليس من أجل ذلك وهبه الله لنا». ما يحدث خلال صفحات هذه المطبوعات وأيضا في لقاءات نقاش عامة وخاصة (مثل «مهرجان أسبن للأفكار») هو «مراجعة مستمرة ومتجددة» لترسيخ وتأكيد مبدأ ومفهوم ومناخ «تعددية الرؤية» وأيضا طرح أسئلة جديدة من أجل ايجاد اجابات جديدة. وهنا يجب أن أتذكر أحد الأقوال المثيرة للانتباه .. والفاتحة لشهية التفكير.. «كيف تريد أن تجد اجابة جديدة لأسئلتك في الحياة وأنت لازلت مصرا ومصمما على أن تسأل السؤال نفسه وبالصيغة ذاتها؟» ولا يمكن أن أنسى أبدا الأستاذ عبد اللطيف أحد أساتذتي في اللغة العربية .. ليس فقط بسبب ما تعلمت منه (وأنا أقف له دائما تقديرا وتبجيلا) ولكن أيضا بسبب ما حرصت أو صممت على ألا أتعلم منه وتحديدا ما كان يسميه ويوصفه ب «الاجابة النموذجية».هذا الأستاذ كان حريصا في درسه غالبا (وخاصة مع نهاية العام) أن يقوم بتحضيرنا لخوض الامتحانات والنجاح فيها فقط لا غير..ومن هنا جاء التكرار والتشديد على أن هذه هي «الاجابة النموذجية» لهذا السؤال أو ذاك السؤال من أسئلة الامتحانات. ومن يومها والحمد لله (وأكيد أنت عارف يا سمير وأنت كمان يا ايهاب) تواجدت لدى حساسية شديدة بل نفور تام تجاه الاجابة أو الاجابات «النموذجية» في أى مجال من مجالات حياتنا الخاصة والعامة على السواء .. ان أسئلة الحياة ( مع تجددها) ببساطة في حاجة ماسة الى اجابات غير نموذجية ومبتكرة والا ما كانت حياة ..اجابات فيها ابداع وفيها تفكير وفيها رؤية وخيال .. فيها خروج عن النص .. وهروب من الصندوق أو «تابوت الأفكار المتحجرة». ولا شك أننا أمام طوفان من المعلومات حول يومنا هذا وغدنا ذاك.هذا الطوفان (وبالتأكيد سمعت هذا التعبير كثيرا) يحدث في اطار أو بسبب ثورة أو ثورات الاتصال والتواصل المتوالية التي تلاحقنا وتطاردنا كل اليوم. نعم انه طوفان من المعلومات تأتي معه «المغلوطات» أيضا. وليس سرا أن أغلب الناس في العالم كله في حالة ارتباك يزداد يوما بعد يوم . ومن هنا يأتي السؤال (وهذا الأمر بالمناسبة مطروح عالميا) دور الاعلام والتعليم وقادة الفكر والرأى في تهيئة المجتمعات والعقول (الناشئة والناضجة على السواء) لغربلة أو فلترة هذا الكم المعلوماتي والحصول على «الكيف المعرفي». والعبارة الأخيرة في حاجة الى اعادة القراءة للتمييز بين الكم والكيف وبين الحجم والقيمة. و»غربلة» بهذا المفهوم لا تعني أبدا «تحجيم الأفكار» أو «فرض قيود فكرية تحت مسمى حماية المجتمع وقيمه». بل «غربلة» لضمان الحصول على كل ما له فائدة وقيمة ويمثل اضافة للمعرفة الانسانية. نعم انها مهمة صعبة وشاقة للغاية ولكن لا مفر منها. و»محتاجة أدمغة واعية وناضجة وليس فتوات صحافة واعلام» وأيضا مطلب جماهيرى ملح «ماينفعش معاه فوت علينا بكره». هذه المهمة الهامة في حاجة الى فهم واستيعاب وادراك لمتطلبات النهارده واحتياجات بكره. والمسألة ببساطة (يا عالم) ليست الأخذ بكل ما يحدفه البحر علينا. ولا هو «دلق للزنبيل».. أو «دلق لجوجل» حتى أكون متماشيا مع لغة العصر.