أكتب لكم من باريس، دون أن أغادر مصر. فمصر كما سبقني الي القول كثيرون تعيش فينا كما نعيش فيها أو أكثر مما نعيش فيها. لأننا نحملها في أفئدتنا سواء كنا مقيمين او كنا مسافرين. فليست مصر مكانا فحسب، ولكنها قبل كل شيء زمان. ليست مجرد طمي ورمل ونهر وبحر، وإنما هي قبل هذا وذاك بشر. بشر صنعوا مصر وصنعتهم مصر وهم يصنعونها. أثارت خيالهم، وفجرت مواهبهم، وجعلتهم جماعة متضامنة وثقافة مشتركة. التاريخ الذي تحولت به مصر من أرض الي وطن هو الذي تحول به المصري من كائن الي مواطن. ولقد يبدو هذا الحديث عاطفيا دون مناسبة تثير العواطف. وقد يبدو غير متوقع ممن يكتب من باريس التي يفتح اسمها شهية القاريء لمعرفة ما يقدم فيها وما يدور. لكن باريس لن تكون هي موضوعي الأول، وإنما سأكتب هذه المقالة عن مصر كما أراها وأنا في باريس التي ستكون خلفية أنظر لها فأري ما أجده في مصر وأري ما أفتقده. أما عن العواطف التي تلح علي في هذا الحديث فأنا لا أبريء نفسي منها، ولا أتكلف الوقار في حديثي عن مصر التي لا أظن أننا نسرف في اظهار حبنا لها. بل نحن نسرف في اخفاء هذا الحب وفي كتمانه رغم حضور الدواعي والحاحها. لا أتحدث عن حب محفوظ كأنه الطعام المحفوظ، ولا عن عبارات تقال في المناسبات ولا تعني شيئا. بل أتحدث عن حب صحيح، حب عارف مثقف له أصوله وجذوره التي نتمثلها ونرجع اليها ونعمل بمقتضاها. نعم، نحن في أشد الحاجة الي أن نحب أنفسنا، أي نعرف قدرها، بعيدا عن المناسبات التي تبدو فيها العواطف الوطنية ألبسة زاهية نرتديها في المناسبة ونخلعها بعدها. نحن في حاجة الي أن نعرف ماضينا العريق، لا باعتباره معلومات وتواريخ لم تعد تعني شيئا إلا لتلاميذ المدارس، ولكن باعتباره تجارب وخبرات حية وتعبيرا عن شخصيتنا ودروسا نستفيد منها. بهذا يتخلص الماضي من ملابسات الماضي ويتحرر من شروطه ليولد في الأجيال الجديدة ولادة جديدة يتفاعل فيها مع الواقع الجديد ويتحول الي حاضر، ثم يتحول بهذه القوانين ذاتها الي مستقبل. فليس المستقبل إلا البعيد او الغامض الذي نضيئه بخبرة الماضي والحاضر ونتوقع ما سوف يكون فيه مما تصدقه الأيام او تكذبه، فننتفع به في الحالين ونضيفه الي خبرتنا ونزيد به قدرتنا علي رؤية البعيد والتنبؤ بالمستقبل. ونحن نشكو في هذه الأيام من أننا في نشاطنا الوطني كما نحن في نشاطنا الفردي نواجه ما يفرض نفسه علينا من المشاكل واحدة بعد أخري تداهمنا كل منها دون أن نتوقعها او نحسب حسابها او نستعد لمواجهتها. ثم لانكاد نخرج من مأزق حتي نجد أنفسنا في مأزق. فنحن دائما غير مستعدين وغير متأهبين. نؤخذ علي غرة، ولهذا نخسر الجولة قبل أن تبدأ. وربما كان الذي نقع فيه من صنع أيدينا، وكانت جنايتنا علي أنفسنا أفدح من جناية غيرنا علينا. وذلك حين ننساق دون روية، ونندفع دون تفكير، فنقع في أخطاء مميتة لا يحتاج معها الخصوم الي صواب كثير أو ذكاء خارق او تضحية باهظة ليكسبوا معاركهم معنا. ولننظر فيما حل بنا خلال العقود الماضية من المشاكل والمصائب والأخطار. الحروب التي خسرناها وكنا نستطيع أن نكسبها وكنا نستطيع أن نتجنبها. والأحلام والفرص التي أضعناها، ولو أتيح بعضها لغيرنا لحقق المعجزات . بل لقد فقدنا خلال العقود الماضية ما كنا حققناه قبلها. المدرسة الوطنية، والجامعة المصرية، وحتي عاصمتنا التي كانت تقارن بهذه المدينة التي أحدثكم منها. لننظر في هذه الكوارث التي تلاحقت وتكالبت علينا في العقود الماضية ولنسأل أنفسنا: من أين جاءت؟ من داخل بلادنا أم من خارجها؟ ولماذا لم نتوقعها؟ ولماذا لم نحاصرها نحن من البداية قبل أن تحاصرنا وتدفعنا او تكاد تدفعنا لليأس من الوصول الي حل او خلاص؟ الجواب حاضر واضح، وهو أننا نمارس حياتنا وكأنها يوم واحد نجهل ما قبله ونجهل ما بعده، فالأمس طقوس نؤديها وشعائر نكررها ولا نفكر فيها. والغد غيب مستور وقدر نازل لانستطيع له دفعا ولا نجد منه مهربا. وهكذا تنزل بنا الحوادث منقطعا بعضها عن بعض. لانعرف لها مقدمات، ولا نتوقع نتائج. وهكذا ننظر للزمن. الماضي ليس مقدمة للحاضر. والمستقبل ليس نتيجة منطقية لهذا وذاك. وهكذا نري التاريخ. فالتاريخ هو ما يحل بنا وينزل علينا وليس ما نصنعه نحن او نشارك في صنعه. نحن كما تقول بعض الفرق الدينية ريش في مهب الرياح التي تعلو بنا وتهبط فلا نقاوم ولا نعترض ولانريد ولانختار. باختصار، نحن بهذا الواقع الراهن وبهذه الثقافة الموروثة لسنا أحرارا. لانصنع حاضرنا ولا نتحكم في مستقبلنا. نعيش حياتنا يوما بيوم، ونواجه مشاكلنا مشكلة بعد مشكلة مفتقرين للرؤية الكاشفة التي تمكننا من فهم ما حدث، وتساعدنا علي تصور ما يمكن أن يحدث لنحقق به ما نريد ونتجنب ما لا نريد، وذلك ضمن خطة مرسومة محسوبة نوفر لها ما لابد أن يتوفر من الامكانات والأدوات والكفاءات ونجعلها خطوات ومراحل يقوم فيها كل مشروع علي المشروع الذي سبقه ويؤدي الي المشروع الذي يليه. وبهذا تتكامل الخطة وتتحقق المطالب. لكن الرؤية الكاشفة لاتتحقق بالعين المجردة، وإنما تتحقق بالوعي. وعينا بالواقع، ووعينا بأنفسنا. والبداية من وعينا بأنفسنا. لأننا حين نعرف أنفسنا نعرف كل ما مر بنا وأصبح خبرة وقدرة علي التمييز بين الصواب والخطأ وبين الحقائق والأوهام. يجب أن نعرف أنفسنا لكي نعرف ما نريد وما نشتهي، ولكن نميز ونختار. وهذه هي الحرية التي لا نمتلكها إلا اذا امتلكنا أنفسنا. فنحن نمتلك أنفسنا حين نعرفها. وحين نعرف أنفسنا نصبح أحرارا. ومن هنا كانت «أعرف نفسك». هي الكلمة الأولي في الفلسفة، وكانت «عودة الوعي» هي صحوة توفيق الحكيم علي ما صرنا اليه، وهي وصيته الأخيرة التي لم نعمل بها حتي الآن. والا فمن نحن؟ أمة كما كنا نري أنفسنا في زمن النهضة؟ أم جزء من أمة كما أصبحنا نقول في زمن التراجع والانكسار؟ في زمن النهضة كنا أمة مكتملة بشهادة الجغرافيا وشهادة التاريخ. وبهذا الوعي خرجنا من عصور الظلام، وتحررنا من الغزاة الأجانب الأتراك والبريطانيين، وانتزعنا الدستور، وأنشأنا ثقافة جديدة، واتصلنا بالعالم، ودخلنا العصور الحديثة. نهضتنا الحديثة ارتبطت بوعينا الوطني حين فتحنا عيوننا علي الواقع عرفنا أننا أمة. وحين عرفنا أنفسنا عرفنا الحرية. فما الذي حدث بعد ذلك؟ حدث أننا صرنا نصف أمة، او ربع أمة، او جزءا من أمة كما تقول دساتيرنا الأخيرة. عندئذ خرجنا من زمن النهضة، وفقدنا الحرية، والديمقراطية، وعدنا الي العصور الوسطي من جديد! لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي