مفارقات غريبة ومؤامرات يكشف عنها التاريخ المكتوب لمشروع قناة السويس القديمة والجديدة، أخبثها أنها استخدمت من قبل لإضعاف قوة مصر الناعمة فى عالمها العربى والإسلامى، وثانيها وأغربها أن سعد زغلول زعيم الأمة أيد بشدة مد امتياز الشركة الأجنبية للقناة 40 سنة أخرى لينتهى فى عام 2008 بدلا من 1968، وأن الزعيم الوطنى طلعت حرب قاد حملة لإجهاض هذا المخطط الذى بدأ عام 1909ولن ينتهى بافتتاح الرئيس السيسى قناة جديدة عام 2015 ، وأن ثالثها وأروع صفحاتها المرتبطة بحفر قناة السويس الجديدة وأهم من دخل القناة والاستثمارات فى المنطقة مازال غاطسا ينتظر من يفجره! أبدأ بأخبث المفارقات التى كشف عنها الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر الأسبق فى كتابه أوروبا والإسلام: «أن قادة ثورة يوليو اكتشفوا فى أوراق ودفاتر قناة السويس بعد تأميمها أن ميزانيتها خصصت ثلاثة ملايين جنيه للتبشير فى بلاد الشرق الأوسط، فالقناة التى حفرت بدماء وسواعد مصرية على أرض مصرية يخصص من ميزانيتها كل عام مبلغا لإضعاف شأن مصر وإحداث شرخ فى انتمائها الدينى وجوهرها الخلقى ومحيطها العربى من خلال مدارس تبشيرية لتخرج المهندس والطبيب والاقتصادى ليكونوا عندما يصلون الى موقع القيادة فى خدمة الاستعمار وشوكة فى ظهر الدولة الوطنية».. واللافت أن مدينة الاسماعيلية التى انتشرت فيها المدارس التبشيرية هى نفسها التى شهدت ردة الفعل بولادة حركة الاخوان المسلمين المتطرفة التى تناسل منها كل التنظيمات الارهابية التى نعانى منها اليوم! أما أغرب المفارقات فقد بدأت حكايتها الظاهرية بسبب «الاقفار» أو تدنى حجم رصيد الاحتياطى والاحتياج المستمر لتعمير السودان اضطرت حكومة مصر تحت ضغط وأوامرالمعتمد البريطانى و شركة قناة السويس العالمية بمد أجل امتيازها 40 سنة أخرى تنتهى عام 2008، بعد نهاية ال99 سنة عام 1968، وقد عرض الخديوى عباس حلمى الثانى حسب مذكرات أحمد شفيق باشا على الجمعية العمومية المشروع لأخذ الرأى فيه عام 1909، وقال: إن حكومتنا مجمعة على قبوله شريطة رضاء الشركة بالتعديلاتٍ، فالغرض كان البحث فيما اذا كان من مصلحتنا مد أجل الامتياز أربعين سنة أخرى مقابل اقتسام الأرباح فى هذه المدة بين الحكومة والشركة مناصفة، وتدفع الشركة للخزينة مبالغ تصل إلى أربعة ملايين جنيه تدفع على أقساط كل عشر سنوات، واذا حصلت الموافقة تكون الفائدة التى تنالها مصر موجبة لتمام الرضا، وقد تولى سعد زغلول باشا الدفاع عن وجهة نظرالحكومة فى هذه الاثناء، ورغم أن الحكومة رأت أن تخفى نبأ المشروع لكن من حسن الحظ كما يقول تيودر روزنشتاين صاحب كتاب تاريخ مصر قبل الاحتلال البريطانى وبعده أن المصريين قد تسقطوا شيئا من المفاوضات وتكهرب الجو وانعقدت الجمعية العمومية فى الحال وسط أجواء المظاهرات التى طافت تهتف فى شوارع العاصمة ضد المشروع والمروجين له وتتهم رئيس النظار وبطرس باشا غالى بالخيانة والاجرام فى حق الوطن ، وتوالت هذه المظاهرات الحماسية عدة أيام وانتهت حسب مذكرات أحمد شفيق باشا بمقتل بطرس غالى رئيس النظار على يد ابراهيم الوردانى، فى «رائعة النهار» وكان طلعت حرب تصدى لهذا المشروع الاستعمارى المفضوح وقدم تقريرا عن الخسائر الفادحة الذى أيدته حكومة الاحتلال البريطانية لتستفيد من أسعار أسهمها وتجنى الملايين من نتائج أعمال التعميق وتستفيد الشركة من نصف أرباح القناة وضمان الوجود الانجليزى لحمايتها، لكن طلعت حرب باشا الثورى الحقيقى وقائد معركة الاستقلال الوطنى إبان ثورة 1919 الذى تعامل مع العرض بعقلية السياسى الوطنى لا المحاسب الطماع الحريص على مكاسبه قد فند حجج المد وهى انخفاض قيمة اسهم القناة ومد سكة حديد بغداد وافتتاح قناة بنما واختراع وسائل بديلة للنقل البرى وعبرالهواء والتهديد بجعل القناة دولية او حرة قائلا :إن الدول لم تتفق مرة واحدة على غزو بلد واحد ولم تأخذ الى اليوم قناة غصبا اضافة الى ان امام الحكومة المصرية 59سنة لتقرر فيه استمرار القناه فى يد شركة اجنبية من عدمه وفى هذه السطور التى وصفها فتحى رضوان فى كتابه «بحث فى العظمة» تنبأ طلعت حرب بأن «دخل القناة سيزداد وان التهديد بفتح قناة بنما ليس له أساس وأخيرا تنبأ بمحاولة غزو مصر عام 1956وفشل هذا العدوان لأن الاممالمتحدة والعالم كله لم تؤيده، ثم توج نبوءته بأن مصر اختارت فعلا أن تكون القناة مصرية مع تزايد النمو الوطنى الذى مكن جمال عبدالناصر بقرار تأميمها الذى نزع القناة من غاصبيها بعد أن كان الهدف نزع يد مصر عن القناة» ! وهنا تأتى أهمية ثالث النتائج المرتبطة بقناة السويس الجديدة التى تتجاوز تطوير المنطقة وزيادة كفاءة المجرى الملاحى : أنها فجرت القدرة الكامنة فى عبقرية المصريين وأحيت ثقتهم فى أنفسهم، وهم يرون قدرتهم على التحدى والبناء رغم حصار الارهاب فى الداخل والخارج ، ويكفى نظرة على اختصار مدة حفر القناة الجديدة من خمس سنوات بالتوقيتات العسكرية رغم دقتها وانضباطها الى سنة واحدة لنعرف أن الغاطس من إرادة المصريين يساوى خمسة أضعاف الظاهر منها ! كانت هذه صفحات من تداعيات ومؤامرات الطمع الدولى فى القناة القديمة بالإحتلال أو العدوان الثلاثى أو الجماعات الإرهابية المدعومة، ومع قرب انتهاء وتشغيل القناة الجديدة، ستتزايد هذه الأطماع وسيكون الإرهاب أكثر شراسة وعنفا مستهدفا كل مؤسسات الدولة بوجوه ووسائل أكثر تدميرا، ولعل بداياتها قد حدثت منذ ساعات باغتيال الشهيد هشام بركات النائب العام، فهل سيفجر هذا التصعيد إرادة التحدى عند المصريين للحفاظ على الدولة؟ لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف