لم يكن مرجحا لحكم الرئيس السيسي أن يكون ديمقراطيا ليبراليا لأسباب عدة يأتى على رأسها طبيعة اللحظة الدرامية التى صاحبت صعوده نحو السلطة وما يحوطها من مشاغبات إخوانية فى كل أرجاء مصر، وعنف إرهابى فى سيناء، وتهديدات محتملة لأربعة أنحاء البلاد، بل مرحلة إنتقال بالمعنى التاريخى العميق بين نظامى حكم مبارك الأمنى الاستبدادى الفاسد، الذى سقط فى 25 يناير، وبين نظام ديمقراطى حقيقى مرجو لشعب دفع للحرية مهرا كبيرا من دمائه وأمانه عبر ثورتين. معنى الإنتقال التاريخى ألا تنتسب ملامحه إلى بنية نظام الحكم القديم، لا إلى القوى الاجتماعية التى كانت نافذة فيه، ولا إلى الهيكلة السياسية الأحادية له، والتى تجعله طاردا لكل اختلاف إيديولوجى، وتعددية حزبية، ولا حتى إلى الثقافة المغلقة التى نشأ عليها فى الستين عاما الماضية، حيث كان الموروث السلطوى لثورة يوليو يمثل مصدر الغذاء، ومركز الإلهام لتلك الثقافة وإن اختلف ذلك الموروث نفسه بين مراحل ثلاث اتسم فى أولاها بالفعالية والعدالة، وفى الثانية بالفعالية دون العدل، وفى الثالثة بالركود والظلم. فإذا ما خلا نظام الحكم القائم من تلك الثلاثية القديمة: البنية الاجتماعية الظالمة، والبنية السلطوية الأحادية، والبنية الثقافية المغلقة، صار نظاما انتقاليا بالمعنى التاريخى العميق، يؤسس لنظام ومجتمع جديدين وليس بالمعنى السياسي الضحل الذى يدير المجتمع القديم بنفس الآليات المتبعة لفترة قصيرة انتظارا لما سوف يلى بعدها، على النحو الذى شهدناه فى فترة حكم المجلس العسكرى بين سقوط مبارك وتولى الرئيس الإخوانى محمد مرسي، وهى فترة تيه فكرى وانتظار سياسي. ثم فى عام حكم الرئيس المؤقت عدلى منصور، الذى شهد استقطابا شديدا، وعنفا طاغيا بتنويعات مختلفة. غير أن ذلك الفارق المفترض (نظريا) بين النظام الحالى وبين المرحلتين الانتقاليتين لم يتبلور (عمليا) حتى الآن، بفعل رغبة دائرة الحكم حول الرئيس السيسي (لم تتبلور فى نظام بعد) فى الاقتباس من التجربة الناصرية، وخصوصا تلك الصفقة التى كانت متكافئة فى الخمسينيات، وأعنى بها المبادلة بين دولة الرعاية الاجتماعية، والاستبداد السياسي. لم تقم دولة الرعاية الناصرية على الوفرة الصناعية التى عرفتها الدول الاشتراكية الديمقراطية فى أوروبا أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولا على الوفرة الريعية التى تعرفها دول الخليج العربية، بل تأسست على (عدالة جذرية) تمثلت فى انحياز واضح لتحالف العمال والفلاحين، بإصدار مجموعة القوانين الخاصة بالإصلاح الزراعى، والعلاقة بين الملاك والمستأجرين التى أعادت توزيع الأرض/ الثروة فى مصر، ناهيك عن قوانين التأميم التى وسعت من حجم القطاع العام، والقوانين الإشتراكية التى صدرت بعد ذلك لصالح الطبقة العمالية. كما تأسس الاستبداد الناصرى على نزعة شعبوية، وظفت الكاريزما الشخصية، والتأييد الواسع للرئيس فى إضعاف النخبة السياسية، وتعويق بناء نظام حزبى متوازن، فعال وراسخ، قادر على القيادة عبر الحوار والتفاوض والمساومة. اليوم، يسعى الحكم القائم إلى إعادة انتاج تلك الصفقة تعويلا على صيغة المشروعات الكبرى لكسب العقول والقلوب من ناحية، وعلى المماطلة والتسويف فى إجراء الانتخابات النيابية، والعمل على الهندسة المسبقة للبرلمان القادم ليكون مجلس أمة ناصريا، أو برلمانا مباركيا، من ناحية أخرى. وهى صفقة مستحيلة التحقيق لسببين: أولهما هو عجز النظام الوليد عن تحقيق عدالة حقيقية، ناهيك عن أن تكون جذرية، فلا التأميم صار مقبولا فى الداخل أو الخارج، ولا صيغة الإشتراكية الخاصة أو رأسمالية الدولة قابلة للاستعادة. بل ان العام الماضى شهد صمت الحكم تجاه مظالم عدة أضيفت إلى كاهل الفلاحين عندما تم رفع أسعار الأسمدة التعاونية بنسبة 33%، فيما تردد عن تنفيذ بنود الدستور التى تؤكد رعاية الفلاح وضمان سعر أساسي للمحاصيل الأساسية. كما تم تحميل الطبقتين الدنيا، والوسطى الدنيا، أعباء عملية الإصلاح خصوصا زيادة أسعار الكهرباء والمحروقات، بينما تم تجنيب الأثرياء أعباء تلك العملية بالتخلى تدريجيا عن قانون الحد الأقصى للدخول من قبل كل الجهات المعنية به كالقضاء والبنوك، وأيضا عن ضريبة الأغنياء (5 %) لمن يزيد دخله على مليون جنيه فى العام، وهى ضريبة صغيرة من الأصل خصوصا إذا علمنا أن شريحة الضريبة الأعلى فى مصر الآن 22,5% بينما تزيد فى بعض البلدان الغربية علي 50 %، وكذلك عن ضريبة الأرباح الرأسمالية / البورصة المقدرة ب (10 %) فعليا، تحت ضغط المستثمرين فيها، بذريعة أنها ستعوق الاستثمار. وثانيهما أن بنية الاستبداد الراهن تخلو من مزايا الإستبداد الناصري، الذى نهض على تصور إيديولوجى واضح، واستخدم آليات التنظيم السياسي الواحد، وأجاد توظيف المنظمات الشبابية فى التواصل مع الجماهير، فيما يفتقد النظام الراهن للمشروع الإيديولوجى المتكامل وللقدرة على التواصل الفعال مع الجماهير، بعد أن دخل فى صراع مع معظم الفاعلين فى جبهة 30 يونيو سواء من الطليعة الثورية بسبب قانون التظاهر، أو الرموز السياسية الكبيرة بفعل الرغبة فى الإقصاء، أو طبقة الأحزاب المدنية بفعل رسوخ الميل إلى تجاهلها بذريعة ضعفها وتمزقها، أو حتى عموم الحركة الطلابية بفعل التعامل الأمنى الفاضح الذى سمح لوزير التعليم ورؤساء الجامعات بالحديث صراحة عن قيامهم بتجنيد طلاب (وطنيين شرفاء) للإرشاد عن زملائهم المشاغبين، وهو أمر كان يحدث فى الستينيات، ولكن بأقصى درجات السرية والحذر. فإذا ما أضفنا إلى ذلك السلطات الجديدة المعطاة لرؤساء جامعات فى عقاب الأساتذة وتجميدهم وفصلهم، أمكننا تصور القاع الذى تهوى إليه الحرية الأكاديمية، والتى قد تعجز عن الخروج منه لعقود طويلة. ناهيك بالطبع عن المخاطر المحدقة بحرية التعبير، والعزل التدريجى للأصوات المستعصية على التنميط، وما يثيره هذا التطور من مخاطر مؤكدة على مستقبل الديمقراطية. وإزاء العجز عن تحقيق العدالة الاجتماعية، والتلكؤ فى تأسيس الحرية أخذت شعبية الرئيس، بعد عامين على الثلاثين من يونيو، وعام من حكمه، فى التراجع سريعا، وإن تردد كثيرون فى الإفصاح عن غضبهم بتأثير ثقتهم فى وطنية الرئيس، والمعركة الجارية مع الإرهاب. غير أن المجتمعات لا تصبر على واقعها السيئ إلا بالأمل فيما هو أفضل، وهو أمل لم تتضح آفاقه فى مصر، حيث الحرية لاتزال بعيدة، والعدالة لا تزال غائبة، وهنا يكمن الخطر. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم