أثلج صدرى بحق ذلك القرار الجرئ الذى اتخذه جهاز حماية المستهلك أخيرا برئاسة عاطف يعقوب بوقف بث إعلان سخيف صادم يفتقر إلى كل المعانى والقيم الإعلامية والإعلانية والتربوية يصور أبا يصفع ولده على وجهه إثر ادعاء الولد كونه يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل ؛ وبعيدا عن كون فكرة الإعلان لم تتعرض من قريب أو بعيد لأى شيء من شأنه الترويج للمنتج الرئيسى الذى تم إنتاج الإعلان من أجله وأعنى هنا أحد أنواع البطاطس المعبأة إلا أن هذا الإعلان الذى انتفض جهاز حماية المستهلك من أجل منعه جاء بمنزلة نقطة فى بحر كبير جدا من إعلانات أخرى أمطرت بها الشركات والوكالات الإعلانية أعين وأسماع المشاهدين المتعطشين لمشاهدة المسلسلات الدرامية والبرامج الترفيهية، فبدلا من أن تروج للمنتجات التى تستهدف الإعلان لها، إذا بها تروج لهدم العديد من القيم والمبادئ التى تمس السلام الاجتماعى مسا، وكان السلاح الوحيد فى هذا المضمار وللأسف هو سلاح التحريض: فنحن مثلا أمام نوع إعلانى راح يحرض المواطن ضد نوعية حياته بأن دلف يصور له الحياة اليومية على كونها مجموعة من عذابات ومضايقات يعايشها المرء داخل منزله وداخل البناية التى يسكنها مع جيرانه، وفى الشارع سواء وهو سائر على قدميه أو وهو يقود سيارته ..تجسيد مؤلم لمسلسل من المعاناة لا مفر منه بالنسبة للشخص العادي...والحل؟ الحل هو الانتقال للعيش فى مدينة خيالية أفلاطونية تتخللها الغابات الشجرية والزهور الغناء، تصدح فى رحابها الطيور والبلابل حول الأطفال وهم يشاهدون الأفلام السينمائية الممتعة على شاشات عملاقة وسط الحدائق المفتوحة .. ياسلام! ولم ينس (المحرض) فى ذلك أن يؤكد أن رسالته الإعلانية تستهدف كل الأعمار من الجنسين فهو يتناول الرسالة من زاوية الرجل والمرأة والطفل فى مشاهد لم تغفل، ليس فقط التمرد على نمط الحياة من حيث الاكتفاء بمجرد تحفيز الرغبة فى التغيير، وإنما باللجوء إلى (منتهى العنف) من أجل تغيير الواقع . كيف يتأتى الوصول إلى هذه الحالة الانفصالية عن واقع الحياة المصرية وما التكلفة من وجهة نظر المعلن؟ هذا سؤال لم يشغل بال فريق العمل بالمرة وهم يخاطبون الملايين من الناس لحصد أموال قلة لا تتعدى أعشار من المائة فى المائة من المجتمع المصرى المطحون الذى تركوه يتحسر على نمط حياة لايملك أن يغيرها لكى ينضم إلى (جنتهم الموعودة تلك) دون إحساس واحد بالمسئولية تجاه الفقراء!! سيقولون هذه فنون إعلانية ، ونقول تبا لهذه الفنون مادامت لا تراعى الأغلبية العاجزة، وما دامت ترتكز بالأساس على معاناة الناس وصولا إلى شريحة غاية فى المحدودية؛ فلا يمانع أحد مخاطبة الأغنياء المقتدرين لبيع لبن العصفور حتي، ولكن شريطة ألا يمس ذلك السلام الاجتماعى . نوع آخر من التحريض حفلت به الشاشات الإعلانية هذا العام دون وعي، وهو التحريض على انعدام الولاء؛ فأنت أمام (الواد بلية) الحلاق الذى تشرب الصنعة من معلمه حتى أصبح الزبائن يستهدفون المحل من أجله هو، ومن ثم تأتى الرسالة التحريضية التى تشجع بلية على التمرد فى وجه معلمه و دعوته لتوفير مبلغ من المال للحصول على محل خاص به هو وسحب الزبائن إلى هناك إيحاء بأن الأوان قد آن لكى تطعن معلمك الذى يتمرغ الآن فى المكسب المالى نتيجة تعبك أنت! منتهى النذالة والخسة التى لاتتواءم بالمرة لا مع أخلاق العامل الصالح ولا حتى مع بديهيات قانون العمل؛ ودعوة عامة لكل عامل فى أى مكان أن يتجرأ على الخيانة والغدر بحجة أنه مستغل أيما استغلال من قبل صاحب العمل! ولم ينته التحريض على مستوى الحرفيين فحسب وإنما امتد إلى المهنيين أيضا؛ وذلك من خلال تحريض محام شاب على طعن المحامى الكبير فى ظهره بفتح مكتب خاص به معتمدا على الزبائن الذين استقطبهم من داخل مكتب المحامى الكبير، من بعد تجسيد هذا المحامى الصغير على كونه العمود الفقرى الذى يعتمد عليه المحامى الكبير بالأساس؛ يذهب الصغير لحضور الجلسات ويعانى جميع أشكال (البهدلة)، بينما ينعم المحامى الكبير بالجلوس على شواطئ هاواى أو ماشابه وسط الطبيعة الساحرة يأكل الفواكه الطازجة وهو الذى (لايعرف شيئا عما يدور فى المكتب الكبير الذى يحمل اسمه أساسا)! فأى منطق إعلانى هذا؟ أما الأكثر دهاء فكان إعلان عن منتجع ما، لم يخل الترويج له من إيحاء لامس الجنس من بعيد جدا بأساليب الغمز واللمز بالكلمات والحركات بينما تجسد الصورة فكرة وجود الفتيات الجميلات هناك أيضا (إذا أنت أردت ذلك)! ..وأخيرا، دعونا نعترف بأن المشهد الإعلانى أصبح شديد الارتباك؛ فأنت لاتشعر بوجود جهة حقيقية معنية بمراقبة هذا السيل من الإعلانات، وإنما ترك الأمر على مصراعيه لقرار إدارات القنوات الفضائية فيما يبدو دونما إدراك بما هو أخطر وهو أن مايخرج على الشاشات للناس حاليا ليس بالسهولة تصنيفه بكونه إعلانيا أو إعلاميا أو تعليميا أو توعويا أو ثقافيا تربويا فنيا؛ فالخلطة شديدة الامتزاج إلى درجة يستحيل فصل عناصرها بالمرة، ومن ثم فكل ما يبث على الشاشة من السهل جدا أن يدخل فى أى نطاق مما ذكرناه آنفا ويمكنه أن يصيب الهدف على نحو(مزلزل) دون إدراك من جانب من أطلق السهم، وحينئذ من المستحيل أن تحدد من مسئول عن ماذا ؟ وبالتالى فنحن نسأل : من المسئول عن الرسالة الإعلانية عموما فى مصر؛ وعلى من نلقى باللوم حين تدخلنا فى دوائر تتعدى اختصاصات جهاز حماية المستهلك إلى اختصاصات حماية قيم المجتمع ككل؟ لمزيد من مقالات أشرف عبد المنعم