رائحة المسك والنعناع والريحان... تجدها دائما فى انتظارك على أبواب مسجد الإمام الحسين, رضى الله عنه وأرضاه, مهما اختلفت الأيام والسنوات. فهى تحية عشق وود مصرية لسبط الرسول صلى الله عليه وسلم، فالريحان هو عطرونبات عشقه الحسين ، وكيف لا يكون الريحان معشوقا وهو مثله: له مكان وموطن فى جنة الرحمن؟ وأما النعناع صاحب الرائحة المنعشة فهو تذكير بأنك فى بر مصر، فهو, مثله مثل أهل مصر, كريم ومضياف يرحب بكل عابر سبيل، لا يفقد قوته و لا خضرته ولا نضارته ولا رائحته, خاصة لو انغمس فى كوب شاى ساخن فى ساعة عصارى. وأما المسك المصرى فهو درجة روحية وتعبير عن هيام الأرواح الطيبة بمقامه العالى...وهو دليل يعرفه الواصلون والعارفون بحقيقة الحياة، وربما كان أيضا تذكيرا بأرواح أهل بيته الذين ذهبوا معه وكل الشهداء الذين ضحوا من أجل كلمة ومبدأ. سمعنا عن سكينة الروح وارتياح القلب من كابر عن كابر، ومن أب عن جد، ومن جيل عن جيل، ولكن قالوا لنا اننا لن نعرف إلا إذا اقتربنا أكثر وأكثر من المشهد، فقبل أذان الفجر بقليل ربما تنكشف لك حكايات كثيرة عند مسجده الذى يقصده القاصى والدانى فى بر المحروسة. كان مسجد الحسين يوما قصرا من القصور الفاطمية الزاهرة، وفد إليه رأس الحسين بعد أن شاعت الهجمات الصليبية على الشام. فنُقل الرأس الشريف من دمشق إلى عسقلان ثم القاهرة ليسكن هذا القصر, قصر الزمرد الذى انشأت له قبة على بعد خطوات من الأزهر الشريف بأمر من الخليفة الفائز بنصر الله. يقولون إن الوزير طلائع بن رزيك أراد عند بناء مسجده أن يُدفن الرأس بها، إلا ان أمنيته لم تتحقق ابدا. وظلت, مثلها مثل أمنيات عديدة, قد تحلم بها ولكنك, مهما أوتيت من علم وجاه ومال, لا تتحقق . تتردد هذه القصة فى كثير من كتب التاريخ، وإن كان هناك من يقول إنها مجرد تعبير عن حالة حب، فالواقع ان هناك فاصلا زمنيا بين حمل الرأس الشريف إلى بر مصر وبين تشييد طلائع لمسجده. المهم أنها قصة من آلاف القصص التى يرويها المكان، فعلى مر الزمان نجد حالة فريدة من التنافس, قد لا تتكرر, بين الحاكم والمحكوم، فكل منهما يريد أن يمنحه دليلا على الحب, وأن يدخل التاريخ من أبواب الحسين. فالأيوبيون أقاموا مئذنة على باب الضريح، وفى سجل شرفهم محكوم انضم إلى الحكام, وهو القاضى عبد الرحيم البيسانى الذى قام بمجهود ضخم يحسب له فى توسعة المسجد، ومعالجته من آثار حريق تسبب فيه سقوط شعلة من احدى خزانات الشمع فى عهد آخرالأيوبيين الملك الصالح نجم الدين أيوب، أما الظاهر بيبرس والملك محمد الناصر بن قلاوون فى زمن سلاطين المماليك فقد أضافا إلى مسجد الحسين مساحة وبنيا إيوانا وبيوتا للفقهاء من حوله. وفى عهد ولاة الدولة العثمانية ، لم ينس محمد باشا الشريف والأمير حسن كتخدا ترميمه والاهتمام به، وبقيت مئذنته الشهيرة التى تشبه القلم الرصاص شاهدا على اهتمامهم. لم تتوقف الحياة، فبعدهم اعتبر الخديو إسماعيل فى زمن الأسرة العلوية- مسجد الحسين, رضى الله عنه وأرضاه, جزءا من اهتمامه بالقاهرة, التى كانت من قبله فى حال و أصبحت بعده فى حال, من مبان فخمة وجميلة تشبه الموجودة فى باريس. لم يجد الخديو تحية أفضل من إنارة المسجد وترتيب أوقاف له وفرشه بالسجاد العجمى الوافد من اصفهان واسطنبول، ولم يكن وحده فى هذه المهمة التى اسندها إلى صديقه مهندس مصر الحديثة على باشا مبارك، وكأنه لم يرد لأيد غير مصرية أن ترعى صاحب المكان. وفى نهاية الخمسينيات, تقرر الدولة فى زمن عبد الناصر أن ترمم الواجهة الرئيسية للمسجد وان تصنع منبرا جديدا، وأن تبنى مئذنة فى الطرف الجنوبى الشرقى تماثل الموجودة بالفعل فى الطرف الجنوبى الغربى. فتلك الأيام- والعهدة على شهود عيان من أهل الحى كبروا وشبوا وشاخوا فيه- شهدت أكبر توسعات عرفها المسجد. ليست هذه كل حكايا الحكام، فالمعروف أن الملك فاروق كان يحب صلاة الجمعة فى رحاب الحسين، وأن عبد الناصر اختار أن يكون له مكتب داخل المسجد، واعتبره خلوة سياسية وفكرية يخلو فيها إلى نفسه، فاسمه كاملا هو جمال عبد الناصر حسين وهو من محبى الحسين. وعندما جاء من بعده السادات صرح بأنه لا يشعر بحلاوة العيد إذا لم يؤد صلاة العيد فى المسجد ليهنئ الشعب المصرى بعد الصلاة. حكام قد تختلف أو تتفق معهم، ولكن فى رحاب الحسين كان كل صاحب موهبة يفشى سره. فلا أحد يمكنه أن يتخيل ما كان يمكن أن يكتبه نجيب محفوظ إذا لم يغمس قلمه فى عبق حى الحسين ليكتب ثلاثيته الشهيرة و«خان الخليلى» أعمالأ أخرى لم تكن لتعيش وتحيا بعيدا عن رحابه، ولا أحد كان ليتعرف على كثيرين من أصحاب نعمة الصوت الجميل من المشايخ والمؤذنين الذين كانوا يتبركون بالأذان من مئذنته الشهيرة, وكأنهم بهذا الفعل يؤدون واجب الشكر إلى الله على هذه النعمة وهذا الاختصاص الجميل. لم يكونوا وحدهم فى ذلك, فقد كانت من العادات الطيبة لأصحاب الصيت والشهرة امثال عبده الحامولى أن يصعدوا مئذنة الحسين وأن ينشدوا التسابيح على أثر أذان العشاء. وقد وصف شاعر القطرين خليل مطران هذا المشهد الذى أورده الكاتب أحمد زكى عبدالحليم فى إحدى مقالاته - حين مضى فى صحبة إلى سيدنا الحسين وأخبر بعضهم من بالجامع أن عبده سينشد تسابيح بعد أذان العشاء، فلم يأزف وقت الأذان حتى كانت المقاهى وشرفات المنازل المجاورة والساحة الممتدة أمام المسجد تحتوى من الخلق ما لا يدرك البصر أخره.ووقف كثيرون فوق سطوح المنازل العالية وهم يرهفون السمع إلى صوت سى عبده و هو يكاد يغطى نصف القاهرة القديمة. أعود فأقول ليست هذه كل الحكايات، فأهل الجمالية أنفسهم لهم قصص وروايات لا تنفد. وكيف لا تكون هناك قصة عند كل خطوة نخطوها من باب النصر الذى كان يدخل منه السلاطين ويمر به موكب المحمل حاملا الكسوة الشريفة، ومواكب رؤية هلال العيد ورمضان كل عام، ومرورا بنفس الشارع الممتد حيث وكالة السلطان قايتباى مهبط تجار الشام، وخانقاه بيبرس الجانكشير الذى كتب فيه فتح البارى للامام العسقلانى، وحوش عطا حيث سكن عميد الأدب العربى طه حسين، ووكالة كحلا وحارة الدرب الأصفر، ومدرسة الأمير قراسنقر المنصورى ووكالة أودة باشى صاحبة الصيت التى تعانى الآن من الاهمال والضياع، حتى الوصول إلى حبس الرحبة ثم شارع أحمد باشا طاهر حيث السبيل الشهير قبل أن نصل إلى باب المسجد. شوارع عاش بها أولاد التركمان الذين تجمعوا فى حارة مرجوش القريبة التى أطلق عليها هذا الاسم تيمنا بقائدهم و باسم حضارتهم القديمة فى آسيا الوسطى، وأولاد العجم الذين سكنوا حى الخرنفش واصبحوا ملاك دكاكين السجاد العجمى فى خان الخليلى، والمغاربة الذين مروا فى طريق الحج فاختاروا أن يستقروا بالمحروسة، وأولاد الشوام والسودانيين الذين عاشوا فى الوكالات والزوايا والتكايا. فكل هؤلاء قد جاءوا ليعيشوا بين أهل مصر وليكونوا من أرباب الحرف والصناعات, من النحاسين والخيامين والقواسين والفراءين والدباغين والعطارين والسراجين والخياطين والصياغ وتجار خان الخليلى، وجيلا بعد جيل اندمجوا وعاشوا كمصريين. كل هؤلاء هم أبناء حى الحسين الذى يبدو وكأنه مشكاة يتجمع حولها الناس فى ليلة من ليالى القاهرة، أو كأنه نسمة صيف هبطت فى بداية الليل فى يوم قيظ حار، فتجمع الناس يستمتعون بها. فالإمام الحسين رضى الله عنه, الذى تحمل ذكراه أحزانا وأتراحا لغير المصريين، جاء إلى مصر ليصبح أبا وجارا مؤنسا للمصريين و المتمصرين . فأهل مصر يحبون الحسين حبا تنشرح به القلوب، لا يعرف إلا معنى الترحيب بسبط الرسول الذى رغم قصة استشهاده يحتفى مع المصريين بكل تفاصيل حياتهم. اللهم انا نحب نبيك محمدا صلى الله عليه وسلم وآل بيته وحفيده الحسين . مجرد رؤية متواضعة من أمام مسجد الحسين. وفى الختام ليس فقط السلام, ولكن أكثر من حكاية تنتظرنا مع إمامنا الحسين.فإلى الحلقة القادمة