سيظل تيار الاسلام السياسى بتنويعاته وأحزابه وقواعده وسلوكياته أحد أضخم الملفات التى يتوجب دراستها من مختلف الأبعاد.. هذا التيار الذى خطف الساحة السياسية وترعرع خلال عام شهد ذروة المد الاخوانى بقفز تنظيم الاخوان إلى سدة الرئاسة ومقاعد البرلمان بغرفتيه.. يعانى صدمة لم يفق منها منذ خروج الشعب المصرى فى 30 يونيو رافضا لهذا التيار بإجماله.. ومفوضا للجيش بالتصدى لإرهاب عناصره التى عاثت فى البلاد خرابا قاصدة جميع مصالح الدولة وأقسام الشرطة بالحرق والتدمير. ونقصد بتيار الإسلام السياسى هنا كل الأحزاب التى لعبت على وتر الدين ودخلت فى خندق الاخوان.. وأسست جميعا ما يشبه "شركة" لتجارة وتداول الشعارات الدينية، والتى وصلت ذروة نشاطها فيما سمى بجمعة قندهار فى التاسع والعشرين من يوليو العام 2011 أى بعد اندلاع ثورة 25 يناير بستة أشهر فقط. وللحقيقة فإن الأحزاب الدينية كان بعضها قد تأسس والبعض الآخر لم يحصل على الرخصة بعد، وبالرجوع إلى الشعارات الدينية التى رفعتها عناصر التيار الدينى ينكشف عمق الانفصال عن الوطن بأدواته وآلياته ومفرداته وعاداته وقناعاته كمجتمع يقدس الوسطية ويمقت العنف ويرفض التطرف ولا يركن أو يستسلم لمختطفيه أيا كان جبروتهم أو مصادر قوتهم. شعارات جمعة قندهار كانت "إسلامية.. إسلامية"، و"إن الحكم إلا لله"، و"لا للإعلام العلمانى العنصرى.. لا للمبادئ فوق الدستورية"، و"النخبة لا تمثل الشعب"، وقد شاركت كل فصائل التيارات الدينية والتنظيمات المسماة بالإسلامية بمساعدة وتأييد وحشد من تنظيم الإخوان، ومشاركة عناصر وبقايا الجماعة الإسلامية والجبهة السلفية وتنظيم الجهاد. لقد غرست "جمعة قندهار" البذرة الأولى فى استنفار قوى المجتمع المدنية التى استشعرت مبكرا خطورة الوضع الغريب والمعارك الصعبة التى ستنزلق البلاد إلى أتونها.. وبدأت قوى اليسار وبعض رموز تيار اليمين فى شحذ عزيمتها لمجابهة فصيل الاسلام السياسى الذى ارتكز سياسيا على تنظيمات قائمة بالفعل بعضها يعمل صراحة على السطح، وبعضها كانت الضربات الأمنية قد أجهزت عليه عمليا فيما قبل ثورة يناير والبعض الآخر حاول اقتحام الساحة مستمدا قوته المفترضة من الإخوان الذين عملوا كمن يحرك "عرائس الماريونيت". لقد كان تنظيم الإخوان الذى لحق بكتائب شباب يناير ليمسك بعصا الثورة من آخر أجزائها.. ناهيك عن التيار السلفى الذى جلس مع الاخوان على نفس الأرضية، واعتبر المشروع الأسلامى هو الهدف والغاية، وطالما أن جماعة الإخوان كانت رافعة الشعار، فلا مانع مطلقا من السير فى ركابها وترديد مقولاتها وتسخير كل الطاقات لتنفيذ غاياتها. وعلى هذا المنوال كانت كل أحزاب الإسلام السياسى التى تأسست عقب ثورة يناير واجهة سياسية لجماعات وتنظيمات اتخذت من الدين ستارا للسيطرة على مقاعد البرلمان وتعويض ما فات من مناصب وثروة وسلطة فى كافة المواقع، فحزب "الحرية والعدالة" كان الواجهة السياسية لجماعة الإخوان، وحزب "البناء والتنمية" يمثل الجماعة الإسلامية، وحزب "النور" هو الذراع السياسية للدعوة السلفية بالاسكندرية، و"التحرير الإسلامى" ذراع تنظيم الجهاد، و"مصر القوية" هو المرادف للتنظيم الشبابى للإخوان، و"الوسط" هو القناع الذى أخفى كوادر جماعة الإخوان الذين اختلفوا مع مكتب الإرشاد – صوريا - قبل ثورة يناير وانتظموا فى هذا الحزب الذى أراد مؤسسه أبوالعلا ماضى أن يكون رقما فى المعادلة السياسية ودخل فى مفاوضات سياسية عديدة قبل يناير لكن لم تتم الموافقة على إنشاء الحزب إلا بعده. لكن الأقوى من التنظيمات الدينية على الأرض هى شبكات التمويل لنشاط الكوادر والقواعد التى تأسست على مدى سنوات طوال عبر الجمعيات الدينية والمؤسسات الخيرية والمدارس الخاصة والمساجد والمستشفيات الكبرى والشركات المتنوعة، صناعية وسياحية وخدمية، والتى وضعت الدولة يدها على جانب منها لكنها مازالت مراكز لنشر الفكر الإخوانى الذى وصل إلى ذروة صدامه مع قوى المجتمع والدولة عقب 30 يونيو وفض اعتصامى رابعة والنهضة. السؤال الملح الآن.. هل ستعبر يونيو عقبة الإسلام السياسى الذى يسعى دوما إلى وضع العصا فى العجلة؟.. أم أن هناك سياسات أخرى ومبادرات متوقعة فى "جعبة" النظام لتجاوز هذه الأزمة؟!! هناك عدة محددات وأطر لابد من استيعابها أولا للإجابة عن هذا السؤال "الملغز".. أولا: حرب "الشرعية" التى يخوضها فصيل الإسلام السياسى منذ عزل محمد مرسى وتمترسه اليائس خلف هذا الشعار مقابل شعبية جارفة لشرعية جديدة عبرت عن نفسها باختيار قائد جديد هو الرئيس عبدالفتاح السيسى، ثانيا: تنامى الرفض الشعبى للإخوان نظرا لتصاعد العنف والعمليات الإرهابية التى تستهدف يوميا المنشآت العامة وأبراج الكهرباء وعناصر الجيش والشرطة مع تمسك أعضاء الجماعة فى الداخل والخارج بالعنف وسيلة لتنفيذ أغراضهم ومجاهرتهم بذلك فى كافة المحافل، ثالثا: محاولات أطراف إقليمية ودولية الدخول على الخط للعب بالإخوان كفاعل رئيسى فى مخططات نشر الفوضى بالمنطقة بإذكاء النزاعات والصراعات الطائفية والمذهبية تمهيدا لتنفيذ خرائط التقسيم الجديدة التى بدأت دول بالفعل فى السير على طريقها المحتوم لها كالعراق وسوريا واليمن وليبيا فيما بعد. رابعا: رهان الإخوان على أن يكونوا رقما مؤثرا فى معادلة الحروب والصراعات الدائرة خاليا، خصوصا فى اليمن وسوريا وليبيا ليتمسكوا بالأمل الأخير فى البقاء على الساحة السياسية إقليميا بعد سقوطهم المروع فى مصر ثم تونس وحالة المراجعات للإخوان فى الأردن، خامسا: تجاوز المسرح الدولى لمشهد الإخوان فى مصر وبداية تصحيح الصورة عما حدث فى مصر بعد 30 يونيو وما يحدث فى كثير من الدول الأوروبية وأمريكا من تحولات – وإن لم تكن كبرى – خير برهان. سادسا، فشل جميع المبادرات التى طرحها رموز مختلفة محسوبة على جماعة الإخوان فى أن تلقى صدى على أرض الواقع أو تحدث اختراقات فى الكتلة الشعبية الصلبة الرافضة بشكل مطلق عودة هذا التيار على الساحة مجددا. والمثير فى الأمر أن الإخوان لم يصبحوا وحدهم فى مرمى الرفض والسخط الشعبى والسياسى، ولكن كل الأحزاب المتسربلة بالدين باتت على المحك.. فهناك مطالبات واسعة بحل كافة الأحزاب الدينية تطبيقا للدستور الجديد، وردهات المحاكم تعج بالعديد من القضايا التى تطالب بحل هذه الأحزاب.. ولعله أخطر تحدى يواجه هذا التيار.