يستمر سير المظاهرة وئيدا، والناس يسدون المكان، أسير أنا وصديقي الشاعر محمود قرني، ومعنا خلق كثير، لا تكاد ترى نفق الهرم الشهير، من الناس هذه المرة وليس من السيارات التي تتكدس داخله كعادته، والوجهة ميدان التحرير، نهار الثلاثين من يونيو 2013. فالحراك الشعبي على أشده بدءا من مظاهرات الاتحادية المجيدة في ديسمبر 2012، والتي كانت قاب قوسين أو أدنى من إسقاط ممثل الإخوان في القصر الرئاسي، والزخم ماض إلى منتهاه، والتحرير يشتعل أكثر مما كان عليه من قبل في الثورة المجيدة في الخامس والعشرين من يناير 2011، وتصبح الاتحادية تحريرا موازيا تتقاطع معه كافة الميادين المصرية، إنها الثورة.. إنه الغضب. ثمة سؤال شغلني طيلة عام كامل، كيف يحكم الإخوان مصر؟ وما الذي أوصلهم لسدة الحكم؟ وبدت الإجابات مزيجا من رطان المثقفين والوعي بالواقع المعيش ذاته، ألحت عليّ أربعون عاما من التحالف بين الفساد والرجعية، وجدت فيها الإجابة الشافية عما آل إليه الحال المصري في 2012، عقب تنصيب المعزول رئيسا، تبدل التوجس من ثورة يسرقها وكلاء الله الجدد بدءا من استفتاء الجنة والنار ووصولا إلى جمعة قندهار التي وضعت مفهوم الهوية الوطنية المصرية موضع مساءلة!!، تحول التوجس من ثورة يسرقها الوكلاء إلى يقين بوأد الثورة على مذبح الرجعية، تعود الذاكرة عامين لا أكثر، فتتهادى إلى الذهن صور كاريكاتورية عن نخب رجعية تقدم نفسها بوصفها صانعة الثورة، خليط مدهش من أذناب العولمة الأمريكية، ومزايدي الاشتراكيين الثوريين، ومتثاقفين على باب الله في الأفكار وليس في شيء آخر!!. خطابات يتجاور فيها اليمين الديني مع اليسار الراديكالي وتبدو كلها خارج الزمن، غير أنها كانت الأكثر صخبا، في لحظة بات فيها الرشد السياسي حلما بعيد المنال، فالكل صار ثوريا، والكل صار يملك صكا للثورة يرفعه في وجوه المجموع، محذرا إياهم من الاقتراب تارة، أو طاردا إياهم من ملعب الثورة المحتكر تارة أخرى. صارت الثورة لعبة لغوية تلوكها ألسنة تقدم الرطان الفارغ أكثر مما تحمل المعنى العميق!. لو كان ثمة يقين بإزاء شيء فإنه سيكون وعلى الفور بأن مصر كلها كانت هناك، مصر الحقيقية بزخمها، وتنويعاتها، وتناقضاتها أيضا، لقد تبنت جماعة الإخوان صيغة متخلفة رجعية وكرست لها طيلة العام الذي حكمته، فرأينا في الجامعات عقب فض الاعتصامين المسلحين تظاهرات شيطانية داعمة للتيارات المتطرفة والتكريس لحكمها البليد، وهو الحال نفسه الذي رأيناه في الثقافة التي فرت من معركة الدولة المصرية في مواجهة الجهالة والإرهاب، وتركت شعبنا يعاني ويلات أربعين عاما من التجريف السياسي/ الثقافي، ولم يكن سوى نفر قليل يرابط دفاعا عن دولته الوطنية، وناسه، وميراثه الحضاري المتراكم عبر عشرات القرون من عمر الأمة المصرية الرافضة للموت تحت عجلات المرشد، والمقاومة لأن تكون صفقة يبرمها تاجر "شاطر" مع أسياده من قوى الاستعمار الجديد. كنت - كما غيري من المثقفين - موقنا بزوال حكم الإخوان، وعلى الدولة المصرية في أيام مجيدة حقا، وهي تحتفي بمرور عامين على ثورة الثلاثين من يونيو، أن تقضي على الفرقة المصطنعة بين ثورتي المصريين النبيلتين في يناير ويونيو، وأن تدرك أن الغايات الكبرى التي خرج صوبها المصريون باتت مطالب شعبية تسترعي انتباها أكثر، بما يفرض انحيازات اجتماعية واضحة لعموم المصريين، وأن تدرك الدولة المصرية أن التطور المجتمعي فكرة تكاملية، لا تعرف جانبا دون الآخر، فالتطور سياق سياسي/ ثقافي، له أبعاده الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم ينبغي على الأمة المصرية وهي تنجز مشروعها السياسي صوب استقلالية القرار الوطني، والتخلص من إرث التبعية الثقيل، أن تنجز مشروعها الثقافي أيضا، هذا المشروع الذي يجب أن يتجاوز الأفق الرسمي البليد، بطابعه الكرنفالي، والوظيفي المترهل، حيث ثمة حاجة لمشروع ثقافي يعبر عن الثورة المصرية ويكشف زخمها الحقيقي، ويمثل عصبا للمشروع السياسي المصري ذاته، بحيث تصبح الثقافة قيمة مضافة لمتن الدولة المصرية بوصفها قوتها الناعمة والدالة على مجتمع آخذ في التطور، يعمل على تحرير الوعي المصري، ورفده بقيم التقدم والاستنارة، وإخراجه من الوعي الكهفي الذي لا يعي معنى الدولة ولا قيمة الوطن ولا يدرك فهما عميقا للثقافة بوصفها سعيا لعالم أفضل، تحققه أفكار لامعة بنت أوانها، ونخب بنت ناسها، تؤمن بالشعوب أكثر من إيمانها بالسلطة.