لو كنت مكان رئيس مجلس الوزراء المهندس إبراهيم محلب، لشعرت بفزع شديد عند قراءة الخبر التالى: «اللون الأخضر يختفى قريبا فى بنى سويف، بسبب وتيرة التعدى المتسارعة على الأراضى الزراعية بالمحافظة تحت سمع وبصر الجهات الرقابية، فاللون الأخضر تلتهمه كتل خرسانية صماء»، ولأحسست بقلق بالغ من ظاهرة لجوء بعض الفلاحين لبناء مسجد على قيراط أرض حتى يتمكنوا من تعيين احد أبنائهم فى وزارة الأوقاف، فهم يضحون بالأرض للحصول على «وظيفة ميرى». فالفلاح تخلى عن مهنته، مفضلا تبوير أرضه بعدما تأكد من عدم جدوى الزراعة، وبالتبعية ضاعت معالم هويتنا الزراعية التى قامت عليها حضارتنا القديمة. محلب ليس الوحيد المطالب بالفزع، فمؤسسات الدولة المصرية مطالبة بأن تصاب بالهلع من الكوارث المترتبة على تجريف الأراضى الزراعية، وما يشغلنى حقا هو مدلول التعديات وكونها كاشفة للشلل المصابة به الادارات المحلية فى بلادنا، والتى ارى أن حال مصر لن ينصلح ويستقيم دون تقوية ساعد المحليات وتوسيع صلاحياتها، فبناء وطننا يجب أن يبدأ من القاع وليس من القمة، فالمحليات ياأعزائى بها شفرة نجاح أو فشل مسيرتنا نحو النهوض والتحديث. الإصلاح المرغوب لن يتم عبر الحلول السهلة من عينة إقالة مسئول حى، مثلما جرى مع رئيس حى وسط، عقب إبداء محلب امتعاضه وغضبه من تلال القمامة فى الجمالية، فجميل معاقبة ومحاسبة المهمل والكسول والمتقاعس عن القيام بدوره فى التو واللحظة، لكن ليس ذلك هو الحل الأمثل، فقبل الاقدام على عقاب مسئول المحليات يجب أولا تحصينه بتوفير الامكانات، والأدوات، والميزانية الكافية، والراتب الذى يلبى الحدود الدنيا لمتطلباته الحياتية، وكذلك صلاحية اتخاذ القرار فى موقعه دون انتظار ما سيأتيه من المسئولين الاعلى الذين ينتظرون بدورهم ما يأتيهم من توجيهات وتعليمات من الحكومة المركزية، وأن تمنح المجالس المحلية فعليا وعمليا سلطة رقابية تمكنها من تصحيح المسارات الخاطئة وإقالة المحافظ، إذا استدعى الأمر، فقد كانت فى الماضى مجرد ديكور عديم الفائدة وحان الوقت لقيامها بدورها الفعال، وأن نحطم وننسف ميراث المركزية الذى كان سببا جوهريا وراء تردى أوضاع وأحوال محافظاتنا وقرانا ونجوعنا على مر العصور إلى أن أحكم الفقر قبضته على قرابة عشرة ملايين و300 ألف نسمة يعيشون فى ألف قرية. وإلى جانب الفقر فإن قرانا محرومة، ونحن في العقد الثانى من الألفية الثالثة، من ابسط الخدمات إذ إن 50% منها دون مياه صالحة للشرب، و87% دون صرف صحى، فكيف بالله عليكم سيكون شعور قاطنيها، الن يغضبوا ويثوروا ويفقدوا الأمل فى غد أفضل ومن ثم يحجمون عن العمل والاجتهاد، ويفتحون الأبواب للفساد والإفساد؟ فمن حق القاطن فى اقصى محافظة فى ربوع مصر التمتع بنفس المزايا الخدمية المقدمة لأهالى المدن الكبرى، وحتى يتحقق ذلك فوصفة العلاج سهلة ومعروفة وتتمثل فى الآتى: وضع تشريع محكم للمحليات يسهم في تعزيز السلطات والصلاحيات. انتخاب المحافظين بواسطة الاقتراع المباشر وليس التعيين، فالانتخاب سيجعل المحافظ يدرك أن ولاءه الأول والأخير للناخب الذى اقتنع ببرنامجه الانتخابى المفصل والملزم له، ويشترط أن يكون المحافظ من أهل المحافظة وعلى اطلاع وإلمام بمواضع أزماتها، والانتخاب سيفرض عليه حسن اختيار مساعديه بعيدا عن دوائر أهل الثقة، وأصدقاء جلسات المقاهى والدراسة، وما سيعزز هذا التوجه اجراء انتخابات جادة للمجالس المحلية، وأن يختار الناخبون ممثليهم بعناية فائقة استنادا لما يقدمونه من أفكار ورؤى تعالج مشكلاتهم اليومية. ومن يتوخى مصلحة الوطن فليبادر بدعم الدعوة لاتمام الانتخابات المحلية قبل البرلمانية، لأنها ستكون عاكسة لشكل برلماننا المقبل، وإن فرض وحدثت أخطاء وسلبيات فى الاختيارات المحلية فلا بأس، فالخطأ سيدعم آليات ووسائل التصحيح. معايير واقعية عمادها الكفاءة عند انتقاء قيادات المحليات، فكم من شخص يسند إليه منصب فى المحليات، بناء على حسابات تتخاصم وتتعارض مع الكفاءة. تنمية الموارد المالية للمحافظات على أن تستفيد من دخلها بصورة جيدة وتجنى ثمارها. تركيزنا فى خطوات وسبل اصلاح المحليات سيتمخض عنه فوائد جمة منها: أولا: اتساع نطاق المشاركة السياسية مع تحمس فئات مهمشة للنزول لانتخاب من يمثلها. ثانيا: وقف طوفان النزوح الجماعى من الريف للمدينة بحثا عن لقمة عيش، وفرصة عمل، وعلاج مناسب .. الخ، فحينما تتوافر فرص العمل فى المحافظات لن يكون هناك ما يوجب الرحيل عنها، وسنقضى على معضلة الباعة الجائلين كما سنقضى على الهجرة غير الشرعية للخارج التى تستنزف طاقات وعقول قطاع كبير من شبابنا الساعى لطوق نجاة وأمل. ثالثا: تجفيف منابع التطرف والإرهاب، فالمتطرفون لن يجدوا تربة خصبة يعملون فيها، فهم يستغلون الفقر وضيق ذات اليد لتجنيد عناصر جدد. رابعا: إفراز قيادات مؤهلة لتولى المناصب المهمة، سواء فى الحكومة أو القصر الرئاسى بعد تجربتها في المحليات. خامسا: تغيير وجه مصر الحضارى والمعمارى، واستعادة الريف لصورته البهية الناصعة التى تعرضت للتشويه والتخريب المتعمد على أيدينا. سادسا: ازالة حاجز نفسى صعب وشاهق بين مناطق مصر، فالصعيد يعانى من غصة تهميشه وتجاهله لعقود متتالية ولديه اعتقاد راسخ بأن تهميشه قابله اهتمام بوجه بحري وناسه. إن المحليات بها مفتاح الحل لمتاعبنا وانتقالنا لعربة التقدم الامامية وعلينا الالتفات لتلك الحقيقة وتدعيمها قبل فوات الأوان. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي