لطالما كانت العلاقة شائكة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبى منذ انضمامها إليه عام 1973. ولطالما تنازل أحد الطرفين عن الخلافات المشتركة حتى تسير السفينة، كما يقولون، لصالح شعوب المنطقة. ولكن عادت الخلافات بقوة لتؤكد مجددا رفض بريطانيا الاندماج فى كيان واحد وتحمل كل مشكلاته. وبعد أن أعلن ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطانى عقب نجاحه فى الانتخابات العامة أخيرا رغبته فى إعادة التفاوض على شروط ووضع بريطانيا فى الاتحاد الأوروبي، وطرح نتائج هذا التفاوض فى استفتاء عام فى عام 2017، كان لابد من طرح عدة أسئلة : لماذا الآن؟ وما هى القضايا الملحة التى دفعت الشعب البريطانى بشكل متزايد فى الاتفاق مع حكومته على الإسراع بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي؟ تاريخيا، لم تكن بريطانيا داعمة لقيام الاتحاد الأوروبى الذى بدأ باتفاقية روما التى تأسست بموجبها الجماعة الاقتصادية الأوروبية فى عام 1957، لكنها حاولت الانضمام فى عامى 1963 و1967، لكن الفرنسيين بقيادة شارل ديجول هم هذه المرة من رفضوا انضمام بريطانيا. وتحقق لبريطانيا الانضمام فى وقت متأخر فى عام 1973، لكن بعد عامين فقط من ذلك، تم طرح فكرة الانضمام على استفتاء عام انتهى باستمرار بريطانيا فى الاتحاد الأوروبي. ومنذ ذلك الحين كان النقاش الدائر سياسيا بين الجميع داخل البلاد هو ما إذا كان على بريطانيا العظمى أن تكون داخل الاتحاد الأوروبى أم خارجه، حتى أصبح المجتمع السياسى وداعموه منقسمين حول هذه القضية بالتحديد. لكن ماذا يريد كاميرون بالتحديد من هذا الاستفتاء؟ ولماذا فى هذا الوقت بالتحديد؟ فى الوقت الذى يرى فيه كاميرون وحزبه أهمية الاتحاد الأوروبى بالنسبة للبريطانيين، فإنه يعتبر فى الوقت نفسه أن هذه الأهمية ترتكز على ما يضيفه هذا الاتحاد للأوروبيين من قيمة تتمثل فى رفع مستوى معيشتهم ورخائهم. بمعنى آخر، فإن كاميرون يرى أن الاتحاد أصبح أكثر تدخلا وتقييدا لحياة الأوروبيين مما كان متوقعا، أو أنه أصبح عبئا كبيرا عليهم، ما يستوجب إعادة التفاوض حول شروطه. ويريد كاميرون أيضا بالتحديد استعادة بعض السلطات التى تخلت عنها بريطانيا للاتحاد الأوروبي، بما فى ذلك تحديد ساعات العمل، والاتفاقيات المتعلقة بالجوانب الأمنية وتبادل المجرمين، وأخيرا وهو الأهم خوف بريطانيا من سيطرة دول منطقة اليورو ال 17 على مجريات اتخاذ القرار فى الاتحاد الأوروبي. ومما لا شك فيه فإن قضية الهجرة تعتبر مصدر قلق رئيسيا، وبشكل أكثر تحديدا، عدم مقدرة بريطانيا على منع مهاجرى الاتحاد الأوروبى من دخول البلاد تحت مبدأ حرية الحركة بين أعضاء الاتحاد. فقد أظهرت أحدث الأرقام الرسمية أن 228 ألفا من مواطنى الاتحاد الأوروبى دخلوا بريطانيا بحلول يونيو عام 2014، العدد الذى يعد أكثر بمرتين من وعد كاميرون بعدد سنوى أقل من 100 ألف بحلول مايو عام 2015. ولكن فى المقابل، فالبريطانيون الآن أمام معضلة كبيرة وثمن سياسى واقتصادى كبير فى حال مغادرتهم الاتحاد الأوروبي. فالشريك الأهم الآن فى أوروبا هو الاتحاد الأوروبى وليس بريطانيا، والأمريكيون سيحرصون على استمرار الشراكة مع الاتحاد الأوروبى فى مواجهة قضايا سياسية كبيرة كقضية الشرق الأوسط، بينما سينعدم تقريبا دور البريطانيين فيها فى حال خروجهم من الاتحاد. والثمن الاقتصادى أيضا سيكون كبيرا حيث سيكون نتيجة ذلك خسارة كبيرة فى النفاذ إلى الأسواق الأوروبية، على الرغم من محاولة البريطانيين المعارضين للاتحاد الأوروبى التقليل من ذلك. أضف إلى ذلك فإن العديد من مديرى أكبر الصناديق التى يوجد مقرها فى لندن يعدون خططا لنقل أرصدة يبلغ حجمها تريليونات الجنيهات وآلاف الوظائف إلى خارج بريطانيا إذا صوتت لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وكشفت نتائج دراسة جديدة عن أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى سيكلفها خسائر تقدر بنحو 224 مليار جنيه استرليني، فى حين ستتكبد دول أخرى خسائر طفيفة إذا قررت الانسحاب. وستجد بريطانيا نفسها مرغمة على إعادة التفاوض حول العديد من الاتفاقيات الثنائية مع الدول الأخري، كما ستضطر إلى مراجعة الكثير من التشريعات التى أقرتها لتنفيذ قرارات على مستوى الاتحاد الأوروبي، وهو ما سيشكل عبئا اقتصاديا كبيرا يصعب التكهن بتكاليفه. وبالنسبة للشعب البريطانى فنستطيع القول أنه لوكان لبريطانيا كابوس ما فهو الاتحاد الأوروبي. فالشعب البريطانى لا يبدى أى رغبة فى الاقتراب من بقية أوروبا، وأغلب البريطانيين لا يبدو أنهم يهضمون الوضع الراهن. وتظهر استطلاعات الرأى تردد المواطنين البريطانيين تجاه أوروبا. وكما يرى وزير الخارجية البريطانية ويليام هيج فإن الشعب البريطانى لم يكن يشك فى جدوى الوحدة الأوروبية أكثر من الوقت الراهن. وترافق عدم الثقة هذا مع المخاوف من تداعيات أزمة الديون الأوروبية، والغضب البريطانى من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التى ينتقدها السياسيون البريطانيون لحكمها على بلادهم بأن تمنح حق التصويت للسجناء فى الانتخابات الوطنية، ومنعها إياها من ترحيل "الإرهابيين" المشتبه فيهم إلى بلدان لها سجل غير إيجابى فى حقوق الإنسان. وما أثار مخاوف البريطانيين أكثر ما تردد من أن أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية دعت إلى تحويل المفوضية الأوروبية -التى تقوم حاليا باقتراح التشريعات وتنظيم المنافسة- إلى "شيء يشبه الحكومة"، الأمر الذى أثار غضب السياسيين البريطانيين الذين حذروا قبل عقود من احتمال قيام دولة أوروبا المتحدة التى تتجاوز الدول. ورغم أن بريطانيا مازالت عضوا فى الاتحاد، فإن المناوشات بين لندن وبروكسل أوجدت حالة من الشك بين الطرفين، خصوصا فى ظل المشاكل والأزمات التى يتخبط فيها الاتحاد، ابتداء بالأزمة اليونانية، وليس انتهاء بتداعيات الأزمة المالية العالمية وآثارها. ومازالت بريطانيا تضع قدما فى الداخل وأخرى فى الخارج، بينما الدول الأخرى فى أوروبا، خصوصا فرنساوألمانيا ترى أن الاتحاد الأوروبى ضرورة حتمية لما بعد الحرب العالمية الثانية التى كانت نتائجها مدمرة بالنسبة لأوروبا. وحتى إذا لم تنظم بريطانيا تصويتا فإنها قد سبقت وأضعفت ارتباطاتها بأوروبا، وهى سياسة أقلقت ألمانيا التى تتوق للاحتفاظ ببريطانيا كقوة اقتصادية هامة لتحريك التكتل الأوروبي. وهكذا فإن السؤال ما زال يطرح نفسه : هل سيشكل خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبى سيناريو مليء بالخسائر بالنسبة إلى كلا الطرفين أم ستتكبد بريطانيا الخسائر الأكبر لتكون عبرة لبقية الدول الأعضاء التى تجد لدى البعض منها رغبة مماثلة فى الانفصال؟