نقد الذات فضيلة عظمى لمن يقدر قيمتها وجدواها ومنافعها غير المحدودة، غير أن المجتمع المصرى يصر وبغرابة يحسد عليها على مخاصمة تلك القاعدة الذهبية، ولا يبدى ما ينم عن استعداده لاصلاح عيوبه ومثالبه، وفك أسره من الازدواجبة البغيضة التى تحكم سيطرتها عليه. اعرف أن الكلام قاس وصادم فى الوقت ذاته، لكنها حقيقة لا مناص من الاقرار بها ومواجهتها بجدية واخلاص، إن كنا راغبين ومتحمسين بالفعل لا بالقول لتبديل حالنا للأفضل وسريعا، فتجنب المواجهة كان عاملا رئيسيا وراء استفحال أزماتنا وتوارثها عبر الاجيال على مر العصور، وعلاوة على إظهارنا خلاف ما نبطن. الداعى لهذه المقدمة كثرة الشكوى من ظاهرة تسريب امتحانات الثانوية العامة فور دخول الطلاب اللجان، واستغرابنا من استمرارها وفشلنا فى القضاء عليها قضاء مبرما رغم الاحتياطات والاجراءات المشددة، كيف نتوقع التخلص منها والغش يحتل مساحات كبيرة من حياتنا اليومية، وأضحى من المكونات الاساسية للشخصية المصرية التى تعودت التآلف والتعايش معها حتى أنها لم تعد قادرة على الاستغناء عنها؟ اعلم أنك سوف تشتاط غضبا، لكن ما قولك فى أن الغش امتد لتعاملنا وفهمنا للدين بكل ما فيه من قدسية وسمو روحى واخلاقى من خلال اناس يصدرون فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، ويزينون الباطل، وقتل الآمنين، وجز الرقاب، وانتهاك الاعراض، وسرقة المال العام، والاعتداء على معتنقى الديانات السماوية الأخرى. وتتذكرون واقعة الشيخ الخليجى الذى جاء لقاهرة المعز ومن فوق منبر مسجد عمرو بن العاص أفتي بوجوب الذهاب للجهاد فى سوريا، معتبرا إياه فرض عين، وبعد أن حمس الجموع الغفيرة التى أحست بأنها متقاعسة عن فرض من فروض الدين الحنيف استقل طائرة متجهة للندن للاستجمام والاستمتاع. ضم إلى جواره أصحاب فتاوى عدم تهنئة المسيحيين بأعيادهم وعدم ودهم، وتغليظ القول لهم. الغش أيضا فى التعليم، فالمدرس يحجم عن بذل الجهد فى مدرسته ويدخره للدروس الخصوصية، واهالى التلاميذ يساعدونه بمسايرة اولادهم وبناتهم فى امتناعهم عن الذهاب للمدرسة، خاصة فى الثانوية، والاستدانة لدفع مصاريف الدروس الخصوصية، واحيانا تشجيع أبنائهم على الغش والتسامح معه، وتابعنا وقائع عديدة قام فيها آباء وامهات بإملاء الاجابات بواسطة مكبرات صوت أمام اللجان، وفى بعض الحالات اقتحموا اللجان واجبروا المراقبين على غض الطرف عن عمليات الغش. فبعض الأسر مهيأة لقبول صعود الأبناء للتعليم الجامعى بالغش والتدليس، ولا يعنيهم تسلحهم بالقدرة والمثابرة على تحصيل العلم، فالغاية والهدف اقتناص الشهادة الجامعية التى تتحول إلى وسام يزين الصدر، وحينما تضع خريج الجامعة فى الاختبار العملى تصعق من المستوى المتواضع وغير اللائق الذى لا يبنى مستقبلا واعدا ولا يصنع ثروة بشرية تصلح لوضعها فى خانة الاضافة وليس العبء. فاى مستقبل ينتطرنا مع طلبة تخلوا عن الاجتهاد، والدراسة، والمواظبة، فالقيم الثلاث غابت وتلاشت ولم يعد لها وجود فى قاموسنا، فهل سيخرج عالم أو مفكر أو مبتكر ومبدع من بين الغشاشين؟ الابداع والابتكار وظفناه فى الغش، فعاما بعد عام تتطور وسائل الغش من البرشام إلى احدث الوسائل التكنولوجية، مثل الموبايل، والساعات الالكترونية، فعوضا عن استخدام المهارات الابداعية للمصلحة العامة نستغلها فى الغش. وليتنا نستيقظ من وهم مجانية التعليم ذلك الشعار الذى نرفعه بدون ظلال من الحقيقة، فالتعليم اليوم متاح للقادرين، ويخلو من الجودة اللهم فى حالات نادرة، واحسب معى الجامعات والمعاهد المفتوحة لخدمة فئات من الطلاب الأثرياء الفاشلين دراسيا الذين لا يهمهم سوى الحصول على شهادة لا قيمة لها، اليس هذا غشا فاضحا؟ اما عن الغش التجارى فحدث بدون خجل ولا حرج، وللتدليل أسوق إليك واقعتين، الاولى تصريح لحسين منصور رئيس جهاز سلامة الغذاء، قال فيه أمس إن 70 ٪ من المنتجات المعروضة فى الأسواق الشعبية فاسدة، وتحمل علامات تجارية مغشوشة، ويجرى تصنيعها فى مصانع بير السلم، مشيرا إلى أن المخالفات معلومة للجميع والرقابة غائبة. الواقعة الثانية متصلة بالأدوية منتهية الصلاحية التى تقوم الصيدليات ببيعها بنصف ثمنها لوسطاء يتولون تزويد مافيا الدواء بها لاعادة انتاجها بمصانع بالمناطق العشوائية والنائية والفقيرة، تمهيدا لطرحها فى السوق بتاريخ صلاحية جديد، يحدث هذا لأن شركات الادوية توافق على استرداد 2 ٪ فقط من الأدوية منتهية الصلاحية، السنا أمام غش بيّن وكارثة صحية مكتملة الأركان تتسبب فى مآس لا حصر لها يروح ضحيتها من يتناول الدواء المغشوش؟ مظاهر الغش تجدها كذلك فى الإعلام بما يقدمه من نميمة وشائعات ومعلومات مغلوطة، وفى الفضائيات ببرامجها التافهة، وسعيها خلف الاثارة، والابتعاد عما يساعد على تكوين مواطن واع مشارك بفاعلية فى التنمية، وفى الفن أغان هابطة تخاطب الغرائز والحواس، وافلام مقاولات لا تقدم الا شخصيات البلطجية، والفاسدين، والعاهرات. وأبشركم بأن الغش سيختفى عندما نعيد الاعتبار للكد، والجهد، والعمل، واطلاق العنان للابتكار والابداع المحجور عليهما، بسبب النمط التعليمى الذى يعلى من خاصية الحفظ بدلا من تنمية القدرات الذهنية، وأن تعودة مرة أخرى قيمة التعليم كسبيل مضمون للارتقاء الاجتماعى، بعد أن أفسحنا المجال للفهلوة والغش والشطارة كطريق وحيد لاحتلال مكانة ينظر إليها بعين الاعتبار.