أعود لأحدثكم عن كتاب الشيخ على عبدالرازق «الاسلام وأصول الحكم» الذى نحتاج لقراءته فى هذه الأيام الصعبة أكثر مما كنا حين صدر منذ تسعين عاما. قبل تسعين كان الملك فؤاد ومعه أعوانه وأذنابه هو صاحب المصلحة فى خلط الدين بالسياسة وفى هدم الدولة الوطنية وإحياء الخلافة المنهارة ونقلها لمصر ليصبح أميرا للمؤمنين. وكان المصريون كلهم أو غالبيتهم العظمى فى الموقف المضاد لموقف الملك. لأنهم أدركوا أن الزمن تجاوز الخلافة وتجاوز كل النظم السياسية التى تقوم على الدين. لأن هذه النظم تزعم أنها تستمد سلطتها من الله لا من الشعب، فمن حقها أن تنفرد بهذه السلطة وأن تقهر من يعارضها وتنكل به وتتهمه بشق الصف والخروج على الجماعة. ولأن المصريين ذاقوا الأمرين من الامبراطوريات الأجنبية التى حكمتهم باسم المسيحية والاسلام، ولأنهم فى نهضتهم الحديثة عرفوا الديمقراطية وطلبوها فى ثورة عرابى وثورة 1919 وأدركوا أن الرابطة التى تجمع بينهم على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم هى رابطة الوطن فرفعوا الصليب مع الهلال، وهتفوا: الدين لله، والوطن للجميع، كما عرفوا أن الديمقراطية هى أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم. فالديمقراطية هى النظام الذى يمثل الأمة ويشخصها ويحفظ لها مصالحها ويلبى مطالبها. ولهذا ثار المصريون مع عرابى، وثاروا مع سعد زغلول، وطلبوا الجلاء من الانجليز، وطلبوا الدستور من الخديو وأفسدوا المؤامرة الملكية لنقل الخلافة إلى مصر. وقد تغير الحال الآن. فلم تعد معركة على عبدالرازق، وهى معركتنا، مع الملك وأذنابه، وإنما أصبحت معركتنا مع أنفسنا، فضلا عن أن هذه المعركة لم تعد محصورة فى نطاق السياسة، وإنما تعدت هذا النطاق لتصبح حربا شعواء معلنة على الدولة وعلى أجهزتها ومؤسساتها الوطنية. ثم تعدت النطاق الوطنى لتصبح أرهابا دوليا مسلطا علينا من أنحاء وعواصم مختلفة. هذه الأوضاع الراهنة تفرض علينا أن نقرأ كتاب على عبدالرازق فى ضوئها، وفى ضوء التجارب الصعبة التى عشناها خلال العقود التسعة التى مرت على صدور الكتاب. نحن نقف الآن مع الملك فؤاد ضد الشيخ على عبدالرازق، لانكتفى بالخلط بين الدين والسياسية، بل نخلط بين الدين وأمور الدنيا كلها، نحول الدين الذى هو عقائد نرضاها ونطمئن لها ونؤمن بها إلى نظريات نتوهمها فى الفيزياء والكيمياء، وفى الطب والفلك، والاقتصاد والتاريخ، نعتبر الوحى المنزل حقائق علمية كما يزعم بعضهم، وهو دروس أخلاقية وأمثلة تضرب لاستخلاص الدرس وأخذ العبرة وإيقاط الضمير. ونحن نتحدث عن تجديد الخطاب الدينى. لكن تجديد الخطاب الدينى لايعنى فى نظرنا إلا تغيير عبارات وإحلال كلمات محل كلمات. نحن لانرفض الخطاب الدينى الموروث لأنه يجهل معنى الوطن ومعنى الوطنية، ويميز بين المواطنين على أساس الدين، ويرفع بعضهم فوق بعض. وينتقص من حقوق الأقليات الدينية والمذهبية، ولا نرفضه لأنه يرفض الديمقراطية ويعتبرها نوعا من الشرك وينظر للمواطنين بوصفهم عبيدا أرقاء، ويعطى الحاكم الذى هو أمير المؤمنين الحق فى أن يكون لصا سارقا يغتصب السلطة وينفرد بها، فإذا نجح فى اغتصاب السلطة فعلينا أن نسمع له ونطيع حفاظا على وحدة الجماعة كما زعم الفقهاء المنافقون. ونحن لا نرفض هذا الخطاب الدينى الموروث لأنه يعادى العقل والعلم والابداع الأدبى والفنى. ولا نرفضه لأنه يحتقر المرأة ويعتبرها نصف انسان ونصف حيوان ويراها مجرد جسد مثير يطؤه الرجل ويستمتع به. ولا نرفضه لأنه قادم إلينا ومفروض علينا من عصور الظلام والطغيان، بل نرفضه لسبب واحد هو أن بعض الجماعات التى تتبناه تلجأ للعنف وتعتبر العنف فرضا دينيا وتسميه جهادا، فإذ تخلى هذا الخطاب عن العنف فهذا هو التجديد الذى نريده وتريده مؤسسات الدولة. مؤسسات الدولة لاتفصل بين الدين والسياسة، بل تستخدم الدين فى ممارسة سلطاتها، والفرق الوحيد بين هذه المؤسسات وبين جماعات الاسلام السياسى أن هذه الجماعات تحمل السلاح لفرض أفكارها، أما هذه المؤسسات، الدينية وغيرها، فتتبنى الأفكار وتترك للاخوان وغيرهم مهمة حمل السلاح، من هنا لم يعد تجديد الخطاب الدينى ثورة فكرية نوثق بها صلة الاسلام بالعصر وصلة العصر بالاسلام. كما يعتقد أمثالنا، وإنما أصبح ضربات توجهها أجهزة الأمن المختلفة للجماعات الارهابية وتفرض عليها أن تلقى السلاح وتستسلم، وحين نقرأ ما جاء فى المراجعات التى قامت بها هذه الجماعات لفكرها وهى خلف القضبان نجد أن ما أصبحت تقوله عن الاسلام والسياسة بعد أن تخلت عن العنف هو ذاته الذى كانت تقوله قبل أن تراجع نفسها. ومن هنا نفهم أنها ألقت السلاح لأنها لم تعد قادرة على حمله، ولهذا تخلت عن العنف لمؤسسات الدولة التى تخلط مثلها بين الدين والسياسة، لكنها تملك وحدها الحق فى استخدام العنف ضد من يخرج عليها. وهذا بالضبط ما عبر عنه الشيخ محمد الغزالى وهو عالم من علماء الأزهر وزعيم من زعماء الاخوان حين طلب للإدلاء بشهادته فى قضية اغتيال المفكر الشهيد فرج فودة فأعلن أن فرج فودة كافر ودمه مهدر فلابد أن يقتل، ولكن بيد الدولة لا بيد الأفراد! وهى شهادة تجعل الشيخ الغزالى شريكا فى قتل فرج فودة، ومحرضا على قتل غيره من المثقفين والمفكرين، ومدافعا عن القتلة الذين نفذوا الحكم نيابة عن الدولة التى تستحق الخروج عليها لأنها لاتطبق الشريعة ولا تقيم الحد على من يعتبرهم الشيخ الغزالى وأمثاله كفارا مرتدين! هذا الخطاب الذى يعتبر فرج فودة كافرا لأنه يدعو للفصل بين الدين والسياسة لم يعد خطاب الملك فؤاد وحده، ولم يعد خطاب الملتفين حوله والمنتفعين به من رجال الأزهر الذين لم يجرءوا فى أيام الملك على تكفير الشيح على عبدالرازق واكتفوا باخراجه من زمرتهم وطرده من وظيفته، لكنهم استطاعوا فى أيامنا أن يكفروا فرج فودة، ويكفروا نجيب محفوظ، ويكفروا نصر حامد أبوزيد ويفصلوا بينه وبين زوجته ويضطروهما لمغادرة وطنهما ليعيشا معا فى المنفى، ومع اننا أسقطنا الفاشية الدينية فى ثورة يونيو فنحن لانزال نخلط الدين بالسياسة، ولانزال نحلط الدين بالعلم، ولا نزال نكفر أصحاب الرأى ونشهر بهم كما نفعل فى هذه الأيام مع اسلام بحيرى، وشريف الشوباشى، وخالد منتصر. ولانزال نرميهم بتهم غامضة ملفقة نصرف بها النظر عن الجرائم الوحشية التى ترتكبها عصابات الاسلام السياسى. وهذا هو خطابنا الدينى السائد. بل لقد تجاوزنا كل الحدود فأصبحنا نخلع المسيحيين من مساقط رأسهم ومنازل أجدادهم وأسلافهم لأن صبيا من صبيتهم ربما يكون قد أخطأ وهى تهمة لم تثبت بعد، فان ثبتت فهى زلة تصحح بالرفق وتعالج بتقوية الأواصر التى تجمعنا. لكننا ننسى فى هذه الأيام ما يجمع بيننا، لأن الوطن لا وجود له فى الخطاب الدينى السائد. ولهذا نهجر المواطنين المسيحيين، أو نكتفى بتهجيرهم ظانين أننا حين نخلعهم من أرضهم ونشعل النار فى منازلهم ونشردهم فى الآفاق نبتعد عن العنف ونحميهم من القتل. وبهذا نجدد الخطاب الدينى!. لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي