فى المقال السابق اشرنا إلى أن كوريا الجنوبية برعت فى تقديم نموذج يحتذى به فى الاستثمار بالمستقبل عبر ثلاثة اضلاع يكمل بعضها بعضا، هى التعليم، والتجفيف المتواصل لمنابع الفساد، وصناعة السعادة، وخلصنا إلى أن النظام التعليمى الكورى يعد كلمة السر ولا يزال وراء الطفرة الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية الهائلة فى الشطر الجنوبى من شبه الجزيرة الكورية، وذلك بفضل الحرص الدائم على تطويره من قبل الحكومة، والاعتناء الفائق بعموده الفقري، ممثلا فى المعلم الذى يعتبر عصب النظام التعليمى وقلبه النابض، ويوقره ويجله الجميع، ورعاية المبدعين والواعدين من الطلاب، وتوفير الاعتمادات المالية اللازمة للتعليم حتى فى احلك أوقات الضائقة الاقتصادية والمالية التى تعصف بالكيانات الاقتصادية الكبرى بين الحين والآخر. وتشكل محاربة الفساد الضلع الثانى فى المنظومة الكورية للمستقبل، ويتم التصدى له بحسم وصرامة ودون استثناءات، فلا موقع للمجاملات والحساسيات، فمن يثبت بالدليل القاطع تلوث يده بالفساد لا يُرحم ويُعامل بقسوة تليق بفداحة الجريمة. وخلال زيارتى الأخيرة تابعت وقائع التحقيقات القضائية مع «لى وان كوو» رئيس الوزراء السابق الذى استقال منذ أسبوعين اثر اتهامه بتلقى رشوة قدرها 27 ألف دولار من رجل اعمال، عندما كان يخوض الانتخابات البرلمانية فى ابريل 2013، وعرضت على الرأى العام القرائن الدالة على صحة الاتهام منها خطاب كتبه رجل الاعمال الذى انتحر فور تفجر الفضيحة، ولقطات سجلتها كاميرات على بوابات الطرق السريعة تؤكد أن «وان كوو» ، الذى استقال بعد شهرين فقط من توليه رئاسة الوزراء، قابل رجل الاعمال 23 مرة الشهر الماضي، وتبادل معه 210 مكالمات هاتفية العام المنصرم بما يؤكد علاقتهما الوثيقة. تمعن فى دقة التفاصيل ومكاشفة الرأى العام بها لكى يكون على بينة من امره واطلاع على الحقائق الماثلة أمام النيابة كبيرها وصغيرها، فما اسهل فرض حظر نشر على تطورات وملابسات القضية بحكم أن المتهم شخصية سياسية رفيعة، وترك المواطن يضرب اخماسا فى اسداس، وفى الوسط يضيع مبدأ الشفافية، لاحظ كذلك أنه يحاسب على جرم ارتكبه قبل أن يتولى منصبه. ولا تنفصل محاربة الفساد عن تحصين المال العام من الاهدار والعبث به، ففى التوقيت نفسه تقريبا تفجرت فضيحة أخرى بطلها الجنرال «تشوى تشا جيو» قائد القوات الجوية. وفى خطوة احسبها غير مألوفة أعلنت وزارة الدفاع الكورية الجنوبية أنها أجرت تحقيقا فى شكاوى وصلتها، حول اهدار قائد القوات الجوية للمال العام، واساءة استغلال منصبه كيف؟ الجنرال انفق 173 ألف دولار على شراء اثاث جديد لمكتبه عقب اختياره فى ابريل من العام الماضي، والمبلغ دفع من أموال الشعب ودون وجه حق، فكل مليم ينفق لابد أن يوضع فى مكانه الصحيح، ولم يكتف بإهدار المال العام، إذ إن زوجته طلبت من سائقه الذهاب لمنزل ابنتها لمساعدتها فى تعليق الستائر، واستعان أيضا بجندى للسهر على راحة واحتياجات حيواناته الاليفة فى بيته. هنا لا عاصم ولا شفيع من العقاب والمحاسبة، فالغاية سامية وتستحق، فتماسك البلاد مرهون بحمايتها من الفساد وكل ما من شأنه تشجيعه، وألا يكون هناك مسئول فوق النقد والمراجعة. فحينما أخفقت «تشو يوون سون» مساعدة الرئيسة للشئون السياسية فى تمرير مسودة خطة لاصلاح نظام المعاشات لموظفى الدولة، وجهت انتقادات للرئيسة لأنها لم تحسن انتقاء مساعديها مع أن سون قدمت كوجه مثالى لما يمكن للمرأة الكورية انجازه، وتعد أول سيدة تتولى هذا المنصب. الرئيسة لم تسلم كذلك من الانتقاد عندما رشحت وزير العدل «هوانج كيو اهان» لشغل رئاسة الوزراء الشاغرة، فالمعارضة اعتبرته اختيارا غير موفق لكونه لا يسهم فى تحقيق وحدة الصف الوطنى لماذا؟ لأن «كيو اهان» كان نائبا عاما وفى عهده استند لقانون مكافحة الشيوعية الصادر عام 1948 لحل حزب يتبنى وجهات نظر كوريا الشمالية فى 2014. نأتى إلى الضلع الثالث والأخير فى خريطة الاستثمار الكورى فى المستقبل والخاص بصناعة السعادة، نعم صناعة السعادة، فأولو الأمر فى كوريا الجنوبية يسعون قدر طاقتهم لإشاعة السعادة والبهجة بين مواطنيها، ولا تستغرب هذا التكنيك فله مفعول السحر. فالدولة تحاول اشعار المواطن بالراحة فى جزئيات حياتية بسيطة، وتهيئ له أسبابها بحيث لا ينشغل ذهنه بالتفكير فيها، وتوجيه كامل تركيزه للعمل والانتاج، فهو ليس مهموما بكيفية الحصول على رغيف الخبز، ووسيلة مواصلات عامة آدمية، وكوب ماء نظيف، وبيئة نقية خالية من عناصر التلوث والقمامة، وارتفاع الأسعار دون أن يطرأ تغيير فى راتبه. ما سلف بديهيات، لكنها ليست وحدها المشكلة لركائز صناعة السعادة إذ يتضافر معها تغلغل النفوذ الكورى الجنوبى فى المحيطين الإقليمى والعالمى بواسطة آليات وأدوات القوة الناعمة لها تجربة فريدة بمقدورنا الاستفادة منها التى شكلت كفة الميزان لقوتها فى قطاع الصناعات الثقيلة. فجودة المنتجات الكورية يضاهيها جودة منتجاتها الثقافية، فالدراما الكورية أصبح لها مكانتها وتنافس نظيراتها الهندية والتركية، ولك أن تحسب العائد من استقبال كوريا الجنوبية سنويا أربعة ملايين سائح صينى يأتى معظهم لالتقاط صور فى مواقع تصوير المسلسلات الكورية، علاوة على نجاح سول فى اقامة منتديات علمية واقتصادية وتكنولوجية باتت محط متابعة وحرص على المشاركة من العاملين فى تخصصات عديدة، وأن تتحول كوريا لعاصمة التجميل، حيث يزورها ملايين الآسيويين والغربيين لإجراء عمليات تجميل، فوق هذا فإن كوريا الجنوبية من أكثر الدول التى تفتتح فيها مكتبات جديدة، رغم انتشار القراءة الالكترونية فالكتاب المطبوع لم يفقد بريقه ولا سحره فى هذا البلد الآسيوى العريق.