كان الشاعر الغنائى الجميل محمد حمزة أكثر شعراء جيلنا حظاً وتألقاُ وانتشارا، ساعده على ذلك اشتغاله بالصحافة حيث كان يعمل صحفياً بمؤسسة روز اليوسف وصباح الخير التى يتردد عليها نجوم الغناء فى مصر والوطن العربى ويلتقون به وهم يعلمون أنه شاعر غنائى واعد، وكثيرا ما يطلب بعضهم منه نصاً لأغنية جديدة بالإضافة الى أنهم كانوا يلتقون به فى معهد الموسيقى العربية بشارع رمسيس ضمن الشعراء الكبار وجيل الوسط، وإذا قدر لك أن تزور هذا المعهد العريق وتختار لك مقعداً فى حديقته الغناء قبل المغرب وتشاهد جموع الفنانين الذين تكتظ بهم هذه الحديقة قبل أن تتحول إلى مسرح جلال الشرقاوى وتقترب من أحد الملحنين الذى يمسك بعوده ويندمج فى التلحين وتجلس إلى جواره لتتعرف عليه وعلى هذه الكلمات التى يلحنها فسوف تجدها لمحمد حمزة، أما إذا اشتقت إلى دخول إحدى غرف هذا المعهد التى تزدحم ببروفات الفرق الموسيقية ويتم لك السماح بمشاهدة بروفة لكبار الملحنين من أمثال الموجى وبليغ وعبد العظيم محمد وكمال الطويل لشاعر من جيل الرواد الكبار (ومنهم مرسى جميل عزيز وحسين السيد ومأمون الشناوى وعبد العزيز سلام وعبد الفتاح مصطفى) فلابد أن تجد محمد حمزة يجلس إلى جوار أحدهم ليستمع إلى روائعهم الغنائية وهم فى نفس الوقت يجدون فيه شاعراً واعداً شاباً يشجعونه على كل جديد يكتبه وبذلك توطدت العلاقة بين جيل الرواد ومحمد حمزة الذى كثيراً ما يرشحون أعماله الغنائية لكبار المطربين والمطربات اقتناعاً منهم بمبدأ تواصل الشعراء فى مجال الأغنية، وهو الأمر الذى نفتقده الآن مع شعراء هذا الزمن الذين لا يفكرون فيمن يجئ من بعدهم تحسباً وخوفاً من منافستهم. أما الحظ الأكبر الذى رافق الشاعر محمد حمزة فقد تبدى لنا ولنفس الجيل علاقاته الوثيقة بالموسيقار بليغ حمدى بعد نجاحه مع سيدة الغناء العربى أم كلثوم مع كلمات الشاعر الكبير عبد الوهاب محمد «حب إيه» وانتشار هذه الاغنية التى ذاع صيتها على مستوى العالم العربى كله، وظهر بليغ وهو فى سن الثمانية والعشرين بأنه الملحن الواعد والمنتظر الذى سيملأ ساحة الغناء العربى بروائعه الغنائية فتوثقت علاقة بليغ بحمزة الذى كان يرافقه حتى فى بروفات بعض الأغنيات التى ليست من تأليفه، وكثيراً ما كان كبار الشعراء يطلبون منه الحضور لمتابعة أغنياتهم مع أحد نجوم ونجمات الغناء المصريين والعرب فى معهد الموسيقى حباً فيه واقتناعاً بصداقته ومحبته لهم وخفة ظله فى نفس الوقت وروحه الطيبة، وتشتد علاقة بليغ بحمزة بعد نكسة1967 وحرب الاستنزاف حيث كانت آلام النكسة موجعة لهما، مع إيمانهما بأن مصر قادرة بجنودها البواسل وبشعبها العظيم أن تغسل نار الهزيمة وتسترد كرامة الإنسان المصرى والعربى، وكانا يستمعان إلى تفاصيل بعض المعارك التى يقودها الجنود فى أثناء حرب الإستنزاف وصمود أحدهم فى مواقع أخرى مثل معركة رأس العش وغيرها ويدمرون مواقع أخرى مهمة للعدو مثل معركة إيلات التى تحولت إلى فيلم انتصرت فيه البحرية المصرية انتصارا كبيراً فى حرب على العدو، وهنا نبتت عند محمد حمزة صورة الفدائى الذى يضحى بروحه وقلبه دفاعاً عن الوطن فكتب نصاً لأغنية «فدائى» التى ما أن استمع إليها بليغ حمدى حتى طلب من حمزة مقابلته بمكتبه بشارع بهجت على ودون تأخير، فذهب فى الموعد المحدد ليجد بليغ فى انتظاره وقد انتهى من تلحين الأغنية تماماً ويجلسان معاً ويتصلان بالعندليب عبد الحليم حافظ ويبلغانه باللحن والكلمات فطلب منهما الذهاب الى شقته المطلة على حديقة الأسماك بالزمالك ويسمع عبد الحليم اللحن ويتصل فوراً بالاذاعة لتسجيل الأغنية مع الفرقة الماسية والكورال والتى تقول كلماتها: «فدائى .. فدائى .. دم العروبة فدائى .. أموت أعيش مايهمنيش .. وكفاية أشوف علم العروبة باقى» وما أن انتهى التسجيل فى قرب منتصف الليل حتى التقطتها الإذاعة المصرية فى اليوم التالى لتذاع على جميع الشبكات الاذاعية وقنوات التليفزيون، وبعد هذا الزمن الطويل نستمع إليها بعد ثورتى 25يناير و30يونيو، ذلك أن الفن الأصيل الذى أبدعه الثلاثى «حليم وحمزة وبليغ « لا يموت، وأذكر أن الشاعر محمد حمزة دعانى ذات مرة لزيارته بمنزله بالعمارة 3ميدان الملكة زبيدة بالعجوزة ورحبت بنا زوجته السيدة الفاضلة فاطمة مختار الاعلامية وأولاده ودار الحديث بيننا جميعاً حول انتصار أكتوبر وأشاد حمزة برائعة كاتب هذه السطور «مانقولش إية اديتنا مصر» لحن حلمى بكر وغناء عليا التونسية، ومصرية بليغ حمدى الخالصة وحبه لوطنه وتسجيله روائعه الثلاث للشاعر عبد الرحيم منصور «ع الربابة باغنى» لوردة و«باسم الله» للمجموعة» و«عبرنا الهزيمة» لشادية، أحسست فى هذه الجلسة المطولة أن محمد حمزة وهو يحدثنا كان شديد السرحان ولن يمر هذا الانتصار العظيم دون أن يكون له عمل رائع بعد رائعته «يا حبيبتى يا مصر» لحن بليغ حمدى التى أعادت تصويرها المخرجة سميحة الغنيمى، وكان توقعى فى محله إذ فاجئنى محمد حمزة بكتابة رائعة وطنية جديدة من روائعة الغنائية والتى أخذها من بيان الرئيس السادات بطل الحرب والسلام وهو بيان العبور والذى جسده حمزة فى كتابة أغنية «عاش اللى قال» وما أن انتهى من كتابتها حتى اتصل بصديقه بليغ وقرأ له الكلام الذى اتصل بدورة بالفنان عبد الحليم حافظ ليبشره بعمل وطنى ستردده الملايين، وقرأ بليغ الكلام كله الذى كان بليغ قد انتهى من تلحينه كاملاً فازدادت فرحة عبد الحليم بالكلام واللحن، فاتصل بصديقه مهندس الصوت زكريا عامر المتخصص فى تسجيل أغانيه ليحجز استوديو46 ويستدعى الكورال المكون من 16رجلا وامرأة ليحضر بليغ الاستوديو ومعه حمزة فى الموعد المحدد العاشرة مساءً وتبدأ البروفة عدة مرات ويتم التسجيل ويغنى عبد الحليم «عاش اللى قال الكلمة بحكمة فى الوقت المناسب .. عاش اللى قال لازم .. نرجع أرضنا من كل غاصب .. عاش العرب اللى فى ليلة .. أصبحوا ملايين تحارب» ويدخل الكورال ويغنى بعض المقاطع الأخرى بتوجيه من بليغ وعبد الحليم وحمزة خلف عبد الحليم ويتم التسجيل ويتحول الاستوديو إلى تظاهرة وطنية فى حب مصر قرب منتصف الليل ليدخل فجأة رائد المنوعات الكبير المخرج محمد سالم ليهنئ مجموعة العمل بهذا الانجاز الوطنى الذى ترجم بحق قرار العبور الذى أطلقه السادات فى السادس من أكتوبر، ويطلب من زكريا عامر بعد موافقة عبد الحليم نسخة من الشريط المسجل الذى بثه فى اليوم التالى مع لقطات للعبور ليستمع إليه المصريون والعرب فى كل مكان وتصبح «عاش اللى قال» من أروع الأغنيات الوطنية فى حب مصر، أما علاقة محمد حمزة بزملائه الشعراء وحبه لهم فتتجسد فى فى هذه الواقعة، ذات مرة عندما دعانى لزيارته وأبلغنى أن إحدى شركات الانتاج الغنائى فى لبنان كلفت بليغ بانتاج عشرين أغنية وتركت له اختيار الشعراء بنفسه وكذلك المطربين على أن يتولى هو التلحين فطلب منى كتابة بعض الأغنيات وارسالها لبليغ حمدى لتسجيلها وهو ما تم بالفعل، كما كرر نفس الطلب من شعراء آخرين من الذين تربطه علاقة وثيقة بهم مثل عبد الوهاب محمد وعبد الرحيم منصور والشاعر الكبير مأمون الشناوى فشكروا له جميعاً هذه الروح الطيبة التى يندر أن تحدث هذه الأيام، رحم الله الثلاثى الوطنى العندليب عبد الحليم حافظ ومحمد حمزة وبليغ بقدر ما قدموه من روائع فنية فى حب مصر.