«اوجينى» الحسناء الفاتنة رائعة الجمال غادة باريس التى توجت امبراطورة تربعت على عرش فرنسا فى منتصف القرن التاسع عشر، وأصبحت سيدة القصر، «قصر التويلرى» الشهير، قصر الحكم فى باريس ، بعد أن أصبحت زوجة للامبراطور نابليون الثالث فى حفل تاريخى أسطورى لم تشهد فرنسا مثيلا له من قبل أقيم فى شهر يناير من عام 1853 بعد أن اشتعلت جذوة الحب بينهما من خلال اللقاءات والحفلات الساهرة بعد تعارفهما فى أحد أيام شهر نوفمبر من عام 1852 فى حفل دعيت اليه عائلتها فى مدينة «فونتين بلو» حضره الامبراطور نابليون الثالث ورجال الدولة ، وقد لفتت أنظار الحضور وأثارت اعجابهم وهى تمتطى جوادها الرشيق مما جعل الامبراطور يطلب من مستشاريه أن يأتوه بمعلومات عن هذه الفاتنة الحسناء التى زاد اهتمامه بها يوما بعد يوم وتبادلا الحب الذى تكلل بالزواج.«اوجينى» لم تكن فرنسية الأصل، فهى اسبانية ولدت فى غرناطة عام 1826 لعائلة ارستقراطية، ابنة للكونت «دون سبريانو جوزمان» وأم انجليزية ابنة رجل اسكتلندى حصل على الجنسية الأمريكية وعمل قنصلا لأمريكا فى مدينة ملقة الاسبانية، وقضت اوجينى طفولتها باسبانيا الى ان انتقلت وهى فى الثامنة من عمرها الى فرنسا مع أمها وأختها لتتلقى تعليمها هناك، وقد كانت تجيد الاسبانية-لغة الأب- والانجليزية – لغة الأم- بالاضافة الى الفرنسية لغة البلد التى هاجرت اليه، هذا الى جانب اجادتها الرسم وعزف الموسيقى والفروسية . جاء زواج «اوجينى» من نابليون الثالث بهذه السرعة التى أذهلت الفرنسيين وكانت مفاجأة تضاربت معها مشاعرهم نحو الامبراطور، حيث رأى الساسة أنه كان يجب عليه أن يختار زواجا سياسيا يقوى مركز فرنسا بين دول الجوار، وكان الرأى الآخر هو أنه قد تزوج امرأة أحبها وكفى ! هذا الجدل نبه اوجينى الى ضعف مكانتها وإمكاناتها فى هذاالمكان الذى تبوأته بين قصور الحكم العريقة فى اوروبا لتتخذ من جمالها وجاذبيتها ونعومة شراكها وانوثتها سلاحا اعدته لتجابه به المعارضين والحاقدين والمتربصين، وتخوض به معاركها لتؤكد جدارتها بهذا العرش لتقدم على اول خطوة فى محو العداء التقليدى القديم بين فرنساوانجلترا، فقدقامت بزيارة انجلترا مع زوجها الامبراطور فى التاسع عشر من ابريل من عام 1855 لتلتقى بالملكة «فيكتوريا» وزوجها «البرت» حيث احتفيا بهما احتفاء اسطوريا وأقامت لهما حفلا فخما فى دار الأوبرا الملكية بلندن شاهدوا خلاله عرض أوبرا فيدليو، وقد كان ذلك الحفل حديث العالم آنذاك وكيف أن أعداء الأمس أصبحوا أصدقاء اليوم، حيث جمعت بين الشعبين صداقة ازدادت رسوخا بعد أن ردت فيكتوريا لهم الزيارة بعد فترة وجيزة. ازدادت عزيمة الفاتنة الرقيقة وصقلتها التجارب بين جنبات القصر وزادت من نفوذها وقوتها وسطوتها بعد أن كشفت خبايا القوى المتصارعة لتضعف شأن الامبراطورالذى سلم مقاليد البلاد لزوجته لتصبح الحاكمة بأمرها لتدير شئون البلاد بسلطان جمالها وجاذبيتها الطاغية وتعيد حياة البذخ والترف والحفلات والسهر والاستمتاع بمباهج الحياة لتصبح حديث الناس فى مبتكرات ومستحدثات الأناقة والجمال فى باريس «لتعيد الى الأذهان سيرة «مدام دى بمبادور» فى عهد لويس الخامس عشر و «مارى انطوانيت» فى عهد لويس السادس عشر! وتسابق الفنانون لتخليدها على مسطحات أعمالهم برز منهم الفنان «فرانز والترهالتر» كما سجل بريشته الفنان المصرى الرائد محمود سعيد مراسم الاحتفال بافتتاح قناة السويس الذى كانت هى نجمته المتألقة، فقد زارت اوجيني مصر مرتين كانت هذه الزيارة هى الأولى عام 1869، اما الثانية فقد كانت عام 1905 حينما كانت على مشارف الثمانين من عمرها وشتان مابين الزيارتين !! الزيارة الأولى كانت بدعوة من اسماعيل باشا خديو مصر الذى كان يحلم بأن تكون عاصمتها قطعة من باريس كانت الامبراطورة الحسناء فى اوج تألقها وفى قمة جاذبيتها، ساحرة الحسن والجمال، فى الثالثة والأربعين من عمرها وقد اذهلتها فخامة وروعة الاحتفال الاسطورى المفرط فى البذخ والترف والذى فاق ليالى الف ليلة وليلة، جاءت ملبية الدعوة بدون زوجها الذى انشغل بالمشاكل والهموم التى ألقتها على عاتقه التقلبات والأزمات السياسية التى تجتاح البلاد، لبت الدعوة لتبارك أحد الانجازات الفرنسية على أرض مصر وهو حفر قناة السويس، وقد بدأت الزيارة قبل موعد افتتاح القناة بثلاثة أسابيع، ليجنى الخديو اسماعيل ثمار العلاقات الخاصة لوالده الخديو سعيد مع فرنسا والتى حصل ديليسبس من خلالها على امتياز شق القناة بين البحر الأحمر والبحر الأبيض. لقد خصص لها الخديو اسماعيل قصر الجزيرة الفخم – فندق ماريوت حاليا – على نيل القاهرة وكانت زيارة خاصة جدا، وقد قصدت ذلك حتى تعيش المتعة واللهو قبل ان ينشغل اسماعيل بمراسم المهرجان الكبير واستقبال ضيوفه الكبار، ويرافقها الخديو بعد الترحيب الحار الحالم برضا الامبراطورة ليحقق هدفه فى ان تكون مصر قطعة من فرنسا ، لتلتقى الطموحات والأهداف ، وكانت فرصته فى إشباع غريزته فى التظاهر بالبذخ والترف وكذلك اجواء الشاعرية والمغامرات العابثة، وقد عاشت اوجينى فى هذه الزيارة اياما اسطورية، فكانت تأمر وتصير اوامرها هى اوامرالخديو المتيم بها لشعب مصر ساهرين على تنفيذها دون إبطاء، وأصدر أوامره بتمهيد الطريق المؤدى الى الأهرام وابى الهول حينما أبدت رغبتها فى زيارتهما، وكان المشهد الأول وهو الطريق المعبد للزوار العاديين وكذلك عامة الناس، الذى أسرع وزير الأشغال ومدير منطقة الجيزة بجمع آلاف العمال والدواب للعمل ليل نهار ليكون الطريق مناسبا لموكب الملكة والعربات المذهبة التى تجرها الخيول الملكية، هؤلاء العمال هم أبناء الشعب الذين سخروا بالأمس القريب تحت السياط من أجل حفر قناة السويس وكانت أيضا إرضاء للأوامر الملكية الفرنسية فى ظل العلاقات الخاصة بين مصر وفرنسا . أما المشهد الثانى فقد كان بين الآثار الفرعونية فى الأقصر حينما أرادت أن تقضى بعض الليالى الشاعرية برفقة اسماعيل الخديو المحب الولهان والذى بلغ به السفه والبذخ والترف وأقام بجبروته لها مجلسا من الأرائك الذهبية التى تزدان بالمخمل والحرير وسط معبد الأقصر لتتخيل نفسها احدى ملكات الفراعنة حتى إنها صحبت معها رسامى البلاط الفرنسى لعمل لوحات تاريخية لها تخلدها بين هذه الآثار التى خلدت كليوباترا ونفرتيتى وحتشبسوت ! لقد نجحت الامبرطورة الساحرة من خلال هذه الرحلات والسهرات الدافئة أن تشعل العواطف مع المضيف بعد أن التقت الرغبات والنزوات والطموحات ويزداد قرب كل منهما للآخر حتى حانت ساعة الحفل الأسطورى المرتقب الذى سيضعها تحت مزيد من الأضواء لتكون فاتنته التى يشع من لآلىء تاجها بريق التألق والنجومية، وجاء مهرجان افتتاح قناة السويس فى السادس عشر من نوفمبر من عام 1869 لتستقل اليخت الامبراطورى «ايجل» يحيطها حرس الشرف وتحفها الحاشية والوصيفات، وقد أقبل اليخت متهاديا على سطح مياه بور سعيد التى جاء اليها الخديو اسماعيل على ظهر يخته الملكى «المحروسة» قادما من الاسكندرية ليستقبل ضيوفه من الملوك والقادة والوفود من أنحاء العالم، وكان أول الوافدين أمير وأميرة هولندا تلاهما امبراطور النمسا والمجر، ثم ولى عهد بروسيا ، وتم افتتاح القناة فى احتفال أسطورى لم يشهد التاريخ له مثيلا قبل ذلك، أبهر الوفود خصوصا الامبراطورة اوجينى. لم تكتف حسناء باريس بذلك، فقد أبحرت بعد انتهاء مراسمه الى مدينة الاسماعيلية لتستمتع ببعض الأيام والليالى . وكان المشهد الثالث فى قصر على ضفاف القناة أعده لها اسماعيل حيث أهداها فرسا من أجمل الخيول العربية التى يمتلكها، ومارست هوايتها فى رياضة الفروسية . بهذا المشهد تنتهى ليالى الف ليلة وليلة التى قضتها فى أثناء زيارتها الأولى لها لتعود الى فرنسا لتواجه المؤامرات والأحداث الثورية، فلم يمر عام اشتعلت الحرب السبعينية مع بروسيا لتجعل فرنسا فريسة الصراعات الدامية وتنال هزائم متتالية مما أصاب الامبراطورة بالاكتئاب لتحتجب فى قصر التويلرى بعد أن أشارت اليها أصابع الاتهام من جموع الشعب بأنها وراء الهزائم المتلاحقة لتزلزل غضبته أرجاء القصر، حيث اكتظوا بالآلاف فى ساحات القصر للانتقام منها، وقررت النزول اليهم، وأمرت بإحضار جوادها وذهبت لارتداء ملابس الفروسية ففوجئت بهروب العاملين بالقصر والخدم حاملين معهم ما استطاعوا من محتويات القصربالاضافة الى كل ملابسها مستغلين حالة الهرج والمرج التى اجتاحت القصر، بل باريس كلها، مما أصابها بالذهول والحيرة لتتمالك أعصابها ويقابلها السنيور نيجر سفير ايطاليا بباريس حينما همت بدخول قاعة الاستقبال الكبرى التى اكتظت بالسفراء والمستشارين وطلب منها أن تتعجل الخروج من أحد أبواب القصر الخلفية لتستقل المركبة الخاصة التى أعدوها لها لتتجه بها الى الشاطىء ثم تستقل اليخت لتهرب به الى انجلترا فى حماية الصديقة فيكتوريا ملكة انجلترا وتمر السنوات ثقيلة كئيبة لتجتر العجوز ذكرياتها بعد أن اشتعل الرأس شيبا ويعاودها الحنين لأمجاد الماضى فى مصر وليالى القاهرة والأقصروالاسماعيلية ، وتقوم بالزيارة الثانية اليها عام 1905 وهى تخطو نحو الثمانين من عمرها، وشتان مابين الزيارتين !!.. سافرت الى مصر هذه المرة ونزلت متنكرة فى فندق سافوى ببورسعيد حتى لا يراها أحد ، وما أن تنامى الخبر الى مسامع الصحفيين والشعراء فى مصر حتى تباروا فى التعبير عن الحدث ، فنظم الشاعر حافظ ابراهيم قصيدة جاء فيها : أين يوم القنال ياربة التاج ويا شمس ذلك المهرجان ان أطافت بك الخطوب فهذى سنة الكون من قديم الزمان تلك حال الايوان ياربة التاج فما حال صاحب الايوان قد طواه الردى ولو كان حيا لمشى فى ركابك الثقلان ان يكن غاب عن جبينك تاج كان بالغرب أشرف التيجان فقد زانك المشيب بتاج لا يدانيه فى الجلال مدان كنت بالأمس ضيفة عند ملك فانزلى اليم ضيفة فى خان واعذرينا على القصور كلانا غيرته طوارئ الحدثان! وبعد 15 عاما وفى عام 1920 سافرت الى مسقط رأسها فى اسبانيا، واشتد عليها المرض فى مدريد لتموت فاتنة الزمان فى 21 ابريل من ذلك العام ليسدل الستار على احدى القصص الواقعية التى خلدها التاريخ !