24 نوفمبر 2045 يحل اليوم عيد ميلادى الستين, كعادته قارس البرودة, خرجت وحيدا فى الصباح, مررت على الكافيه المجاور لمقر عملى, لن أخرج على المعاش اليوم, فأنا أعمل بمستشفى خاص بعدما استقلت من الحكومة من سنين, كنت أعرف الجرسون اسما وشكلا , فهو يعمل هنا منذ أن بدأت التردد على المقهى, أى منذ ما يربو على العشر سنوات, ورغم ذلك لم نتبادل أى حوار أطول من أربع جمل, الأولى تحية وسؤالا عن الصحة, الثانية ردا على الأولى, الثالثة طلب قهوة وزجاجة مياه معدنية, والأخيرة شكرا. أضفت اليوم احتفاء بعيد ميلادى الستين قطعة جاتوه بالشوكولاتة لطلباتى, أكلتها هنا مرة وحيدة منذ فترة طويلة, لقد كنت مغرما بالشوكولاتة بكل أشكالها فى صغرى, فى الواقع كنت مغرما بكل أنواع الحلوى, وكانت أمى دائمة القول إنه لولا الحلويات لكنت نحيفا ممشوق القوام, ولكنى أضفت أنه لولا الحلويات والدليفرى لكنت مليونيرا نحيفا. أذكر أنه عندما كنت أذهب إلى البوفيهات المفتوحة بأفراح أصدقائى منذ عشرات السنين, كنت أتجه مباشرة إلى قسم الحلوى, الأمر كان يستغرق طبقين أو ثلاثة ممتلئين عن آخرهما بشتى أنواع الحلوى متزاحمة جنبا إلى جنب. ولكن الآن, وبناء على نصيحة طبيب زميلى, امتنعت عن الحلوى, حدث ذلك منذ سنين, ظننت أننى لن أستطيع المقاومة, وفعلا كان الأمر مؤلما واصلا لمرتبة العذاب فى الأيام الأولى, كنت أحلم بالتورت وصوانى الجلاش والبسبوسة, فكرت فيمن اخترع البسبوسة وكيف أن التاريخ قد ظلمه بعدم ذكر اسمه كأحد العظماء. طالما وقعت فى الشرك ولم أستطع المقاومة كأى مدمن ضاربا بنصائح زملائى الأطباء عرض الحائط, ولكن مرارة المرض غلبتنى, فأقلعت عن الحلويات. ولكن قطعة من جاتوه الشوكولاتة فى صباح بارد كهذا لن تضر كثيرا. كان الجرسون يصغرنى بنحو عشرين عاما, لا أدرى فى ماذا مرت سنين العمر, تحديدا لا أعلم ماذا فعلت فى سنينى الثلاثين الأخيرة, فكل ذكرياتى تتكدس بالثلاثين الأولى من حياتى. أذكر صديقى (صالح زيدان) الذى انتحر بعيد ميلاده الثلاثين, لم يعلم أى منا سببا صريحا لفعلته, كنا ببدايات 2014, أحاطنا جميعا الإحباط, أدركنا فشل كل مساعينا وعودتنا إلى حيواتنا الراكدة من جديد. كانت أفكارنا تتمحور حول الهروب من مستقبل يطاردنا, الافلات من مصائرنا المحتومة, الخروج من تلك الدائرة المفرغة, السفر إلى أى مكان, إلى الخليج الذى كان ملجأ لجيل آبائنا, قرر أغلبنا أننا لن نسافر إلى السعودية, قد تكون الكويت, وكذلك فأصدقاؤنا بعمان سعداء, كما أن دبى تظل حلما مكلفا. أو لعلنا نتصيد فرصة إلى أوروبا, سافر بعض رفاقى إلى ألمانيا ولكنهم يعانون من حياة باردة مميتة, انجلترا أبوابها شبه موصدة, معارفى بأمريكا وكندا هم الأكثر سعادة, وتظل استراليا احتمالا قائما. أيا كان علينا أن نهرب من هنا, فكل الشوارع مزروعة بذكريات أليمة, لم أعد أطيق السير بميدان التحرير أو المرور من شارع محمد محمود, لا أقوى على عبور كوبرى قصر النيل ومدخل التحرير دون أن تهاجمنى الذكريات, بات الأمر أقسى مما تخيلت أنه سيكون. وذات صباح, نفذ صالح زيدان خطة هروبه الكبير, لم يترك أى رسائل كما يفعل المنتحرون, لقد فر وأفلت بسرعة خاطفة, تعجبنا كثيرا قبل أن يكسرنا الحزن. ولكنى عندما أنظر خلفى الآن أجد أن صالح لم يكن مخطئا إلى الحد الذى ظنناه, لقد كان وقتا مثاليا لإنهاء كل شىء واغلاق الدفاتر, ماذا فعلنا منذ ذلك الحين إلا الحسرة على ما فاتنا وضاع من بين أيدينا والندم على زهرة شبابنا الذابلة؟ فليس أقسى من الأحلام غير المحققة إلا النجاحات المهدرة. حتى أن أغلب أحلامنا بالسفر ظلت مؤجلة إلى أن تلاشت تدريجيا, ولم يبق منها إلا رحلات سياحية ننتهى منها مفلسين. ظللنا ندور بالساقية ساعين إلى الفكاك منها دون جدوى حتى احدودبت ظهورنا. أتانى عصام بقطعة الجاتوه المطلوبة, دببت شوكتى بمقدمتها وتناولت أول قضماتى منها, كانت بايته, مفروله, ولكن لا بأس, فطعم الشوكولاتة قادر حتى فى أسوأ حالاتها على قتل المرارة فى الحلوق, كأنه مسكن, أو نوع من المخدرات. قالت لى إنجى ذات مرة باستنكار إننى شخص لا يرتكب الأخطاء, كنا فى ساحة انتظار السينما, نستعد لمشاهدة فيلم ثلاثى الأبعاد, جلسنا على إحدى الطاولات حاملين نظاراتنا البلاستيكية قاتمة السواد, وقالت لى إنجى عندما تطرقنا إلى الحديث عن السجائر «ماذا تفعل بحياتك إذن؟؟ ألا تقوم بأى شئ خاطئ؟؟ لا سجائر, لا خمور, لا مخدرات, لا جنس؟؟ « كانت محقة رغم أى شئ, إلا أننى ظننت أن اختياراتى صعبة وتثقل كاهلى. انقطعت الكهرباء أثناء العرض السينمائى, ضجت القاعة بالضحك, كان انقطاع الكهرباء معتادا بأواخر عهد مرسى وظل مستمرا بعده, ولكنه بدا باعثا على الضحك عندما حدث فى قاعة السينما. أخرجت إنجى تليفونها المحمول من حقيبتها, أضاءت كشافه كما فعل الجميع, ثم مالت علىّ وعرضت على شاشته صورا التقطتها عندما انقطعت الكهرباء بإحدى دروسها, حيث كانت هى المدرسة, ضحكتُ ثم نظرتُ إلى جيبتها فاقعة الحمار والبادى الأبيض المبرز لمفاتن جسدها الفائر, كانت لافتة جدا فطاردتنا الأعين والتعليقات بكل مكان, صار الأمر محرجا ومثيرا, ولكن بتلك اللحظة بالذات فى تلك الظلمة المطبقة ما كان يشغلنى حقا هو اقتناص قبلة من شفاهها المكتنزة. إلا أننى لم أفعل, لم أفعل أبدا. ياترى أين إنجى الآن؟؟ ستكون فى حوالى الخامسة والخمسين من عمرها, بالتأكيد تزوجت, وقد يكون لديها بنت فى نفس رونقها الذى عهدته... هل شاخت إنجى ونضب جمالها؟؟ لا أريد أن أتخيل ذلك, الصورة الثابتة بخيالى أجمل وأريد الاحتفاظ بها إلى حين. أنا أيضا أتجنب النظر للمرآة إلا مضطرا ساعيا للحفاظ على صورتى الخيالية القديمة. لم تحضر إنجى أيا من حفلات توقيع كتبى, أحدها كان بعد لقائنا ذلك بأيام, وآخر كان بنهاية العام نفسه, 2013, وانقطعت الكهرباء فى الحفلين. كنت أعلم أن بين حضور ذلك الحفل الأخير بنتين معجبتين بى, وثالثة مشكوك بأمرها, لا أخفيك سرا فهذا يرضى غرورى وأنا أحكيه لك الآن, ولكنى كنت بالفشل الكافى ألا أنجح فى إقامة علاقة مع أى منهن. كنت أسمى ما يمنعنى عنهن بالأخلاق والمشاعر, أما الآن فأسميه فشلا. فى يوم من أيام محمد محمود, بعد الظهر بقليل, قبل عيد ميلادى السادس والعشرين بيومين تحديدا, انتهيت من عملى وتوجهت للميدان كما كانت العادة, كانت الاشتباكات محتدمة دون توقف, الصراع على أشده, صوت الطلقات المتتابعة يصم الأذان ويميت القلب. أنا وكعادتى كنت فى الميدان, بعيدا بخطوات عن شارع المعركة. جلست على الرصيف فى لحظة هدوء نسبى وجاورنى شاب أصغر منى سنا يرتدى قناعا واقيا من الغاز, وجهه ملطخ بالخميرة, تبدو على ملابسه ووجهه آثار الكر والفر, وتغطيه الأتربة الممزوجة بالدموع والغاز, بادرنى بالحديث, كان يدعك عينيه بين لحظة وأخرى, حكى لى عما شاهده داخل المعمعة, ثم صمت, وكذلك أنا, أغمض عينيه واستراح, بعد لحظات التفت إليه فلم أجده بجوارى. فى تلك اللحظة وتحت غطاء من قنابل الغاز والخرطوش, أتى شيخ بجلباب وعمامة, تقدم نحوى وسألنى بعد السلام والتحية بابتسامة لا تتناسب والأجواء المشتعلة «أنت متجوز؟؟» أذهلنى بسؤاله بينما الدماء تراق والأرواح تهدر, ولولا ابتسامته البشوشة لصددته, ولكنى أجبته بإيجاز يدفعه الفضول «لا», فأضاف «ولا خاطب ؟؟», فتبعته بلا أخرى, جلس بجوارى وأبرز ما كان يحمله بيده من أوراق, بدت وكأنها منشورات, هذا هو نوع الورق الذى اعتدناه بحينها, مال علىّ وأعطانى نسخة منه, قال لى إن هذا الورق يلخص خطوات اختيار الزوجة الصالحة, واسترسل فى سرد وشرح الخطوات التى بدا لى أنه مخترعها, أسرنى بأسلوبه وطيبة وجهه وحبه للحياة, وانتشلنى مما يحيطنى من معارك فسمعته بانتباه حتى النهاية رغم عدم اقتناعى بأى مما قال. ظللت حتى الثلاثين أرفض الزيجات التقليدية, سواء على طريقة أمى أو على طريقة ذلك الشيخ, ولكنى رضخت لاحقا وكان ما كان, ليس لدىّ ما أحكيه عن زيجتى سوى أنها مازالت مستمرة إلى الآن. لولا بعض الجبن, وقدر من الإيمان, وكثير من حب الحياة رغم قسوتها, لقلت لك بملء فمى أن صالح زيدان كان محقا فى قراره, ولكن ما أستطيع أن أؤكده لك أنه لم يفته شئ, لم يفته إلا بعض الأحزان وكثير من الآلام. أكلت الجاتوه واحتسيت القهوة, ورغم أننى على بعد خطوات من باب المستشفى إلا أننى قررت ألا أذهب إلى العمل اليوم, فليكن غيابى جزءا من الاحتفال الستينى. كان ذلك الأمر أسهل أثناء عملى بمستشفيات الحكومة التى تركتها منذ عشرين عاما. ففى سن الأربعين, وتماما كما فعل أبى, قررت أن أترك عملى بالطب والتفرغ للكتابة بعدما امتنع الوحى عنى لفترة طويلة. نشبت الخلافات بينى وبين زوجتى وكدنا ننفصل بذلك الحين, ولكننى صممت, أخبرتها أننى الآن بالأربعين من عمرى, سن النبوة وتمام العقل, وعلىّ الآن أن أتفرغ لعمل ما أحب, وأن أفسح مجالا للوحى كى يراسلنى ويعاود مجالستى. قالت أننى جننت, غضبت وذهبت عند أهلها, لم أهتم بأول الأمر, ولم أدرك إلا بعد أسابيع أننى اعتدتها والأمر لم يعد بالسهولة السابقة. وصلنا إلى حل وسط, أن أبقى على عملى الخاص وأستغنى عن الحكومى. ورغم أننى كرهت تلك الخطوة, ووصفتها بأنها نصف خطوة, وأننى بت معلقا بالهواء, إلا أننى الآن أمتن لها لما فعلته, فالخصام بينى وبين الالهام ظل ممتدا, ولم أكتب منذ ذلك الحين إلا اجترارا لذكريات عامى 2011 و2012, وهو ما يبدو أن أبناء الأجيال الجديدة لا يهتمون بقراءته كما كان يفعل أبناء جيلى المحتفون بعامينا الذهبيين. منذ يومين لمحت فى الشارع خالد على, هل تذكر خالد على؟؟ أصبح عجوزا جدا, مازال يترافع ببعض قضايا حقوق الانسان, ولكن لم يعد الأمر يهم أحدا, لم أتعرف على ملامحه إلا بصعوبة, أشرت لابنى الذى كان بجوارى قائلا له إن هذا هو خالد على, ظهرت عليه علامات التعجب والاستفهام, فأضفت أنه كان مرشحا رئاسيا ذات يوم. ابتسم ابتسامة ذات مغزى لم ألتقطه, شعرت أن صوتا يتردد بداخله قائلا ليت هذا العجوز لا يحكى لنا مرة أخرى عن ذكرياته الصدئة... لى ابن وبنت, خالد وسلمى, لم أخضع لمحاولات زوجتى أن تسميهم تلك الأسماء الأجنبية الجديدة, لقد جاوزا العشرين الآن, وحكيت لهما منذ طفولتهما كل القصص, الحقيقى منها والمختلق, حتى أصبحا يعلمان أكثر مما أذكر, ولكنهما لم يعودا يرحبان بسماع تلك الحكايات, فلا أحد يحب ذكرياتنا إلانا. حاسبت عصام على قطعة الجاتوه وفنجان القهوة, وخرجت لأسير بالطرقات, عبرت أمام باب المستشفى دون أن أنظر إليه, اتصلت بأصدقاء شبابى, اتصلت بعمرو وأشرف, كانا مشغولين كما كانا دائما عبر الثلاثين سنة الماضية, ولكنهما عندما أدركا أنه عيد ميلادى الستين, وعدا بالمجىء ليلا للتسامر على إحدى مقاهى شارع فيصل أو الهرم كما اعتدنا أن نفعل فى شبابنا منذ عشرات السنين, سنتكلم بشغف وأريحية عن ذكرياتنا المشتركة وعما مررنا به, سنعيد نفس كلامنا الذى قلناه بكل جلساتنا المتباعدة, سنحكى عن جمعة الغضب, الإخوان, محمد محمود, خالد على, سنحكى عن يوم محاكمة مبارك, عن تجمعنا فى غرفة الأطباء تاركين العيادات مصطفين أمام التليفزيون, وعن يوم براءته وجلستنا ليلا على القهوة مدمعين, وسنجتر ذكريات أعوامنا الذهبية دون كلل أو ملل كما فعلنا لسنين. لن ننتهى ولن نمل حتى مطلع الصباح, ولن نرحل إلا عندما ندرك أننا وحدنا بالمقهى الخاوى, فنقوم والبرد يقرصنا والذكريات تقشعر لها أبداننا وتدمع أعيننا, ننسحب من فوق كراسينا ونتحرك بخطى وئيدة متأنية متجنبين مطالبة صاحب المقهى لنا بالرحيل لإغلاقه.