«كنت دائما أود أن أغني، ولكن صوتي كان نشازا» هكذا يسرد الروائي السوداني الطيب صالح حكايته ذاكرا:»ولم أكن أستطيع أبدًا أن أجيد نغمة واحدة، لسوء حظي، إلى أن لقيتها. قالت إن أردت فعلا أن أغني، فعلى إذا أن أغني، مهما كان وقع صوتي» ثم كانت نصيحتها «غن عن الحب، الناس تستهويهم أغاني الحب الحزينة». وبعد هذا الحكى لا أحد يعرف بالطبع ولا أحد يستطيع أن يحسم إن كان الناس تستهويهم هذه الأغاني لكى يتذكروا.. أو لكى ينسوا حالهم ويهربوا من واقعهم؟ ولا شك أن فرعونا جديدا صار مؤخرا يثير فضول أمريكا وينال اهتمام أهلها وأيضا اعجابهم على امتداد أراضيها. انه «الفرعون الأمريكي» وهو الحصان الفائز في سباقين شهيرين للخيل على التوالى خلال الأسابيع القليلة الماضية. سباق «كنتاكي دربي» في لويفيل بولاية كنتاكي أولا ثم سباق «بريكنس ستيكس» في بالتيمور بولاية ميريلاند.انه حدث وحديث عشاق الخيول واذا فاز «الفرعون المصري» في سباق آخر قادم في شهر يونيو المقبل فانه سيدخل التاريخ أيضا بما يسمى ب»التتويج الثلاثي». وصاحب هذا الحصان المبهر هو رجل الأعمال الأمريكي المصري الأصل المعروف أحمد الزيات (52 عاما) صاحب شركة «بيرة الأهرام»سابقا. ومن هنا جاءت تسمية الحصان..ب»الفرعون الأمريكي» وطالما أن «مصر» يأتي دائما في البال. فتوجد حكاية أخرى تحلق وتطير بنا الى ولاية «بنسلفانيا» والى مدينة تدعى «لانكاستر». كان يعيش فيها منذ أكثر من 80 عاما فنان تشكيلي يدعى «تشارلز ديموث»(1883 1935).وقد رسم هذا الرسام من ضمن ما رسمه لوحة أسماها «My Egypt» (مصري). ويرجع تاريخ هذه اللوحة الى عام 1927 وكان الفنان في حالة صحية لا تسمح له بالتحرك والخروج من منزله الذي كان يقضي به أغلب وقته. وهذا المشهد المرسوم في اللوحة كان ل»صومعة غلال» يشاهدها تقف أمامه. ولأن تسمية هذه اللوحة بهذا الاسم أثار انتباه من عرفوا الفنان ومن تابعوا حياته فقد قيل أن هذه الصومعة للغلال بحجمها وأيضا بمعمارها الضخم كانت تذكر «ديموث» بالأهرامات في مصر. ويقال أيضا أن الصومعة أو بنائها في المساحة الممتدة أمام مرمى عينيه وهو مريض أوحت اليه بفكرة الحياة والموت والمقبرة لدى المصريين القدماء. وقد قيل أيضا أن اللوحة تعكس روح الزمن وما صاحبه من سيطرة المباني على المساحات ومرمى الأبصار.. ولوحظ أيضا عدم وجود أي شخص (بني آدم) في اللوحة. ومن درسوا حياة الفنان لم يترددوا في القول أن ولادة اللوحة وبهذه التسمية جاءت بعد 5 سنوات من اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون بكنوزها الثمينة في نوفمبر 1922.هذا الاكتشاف الذي أبهر العالم وأمريكا ومن ثم انعكس في «وله» أو «ولع» أمريكي في حياة المدن وسكانها وحرصهم على إضافة ما يعدونه «مصريا» لبيوتهم وشوارعهم ودور السينما وأماكن تجمعاتهم. والحديث تحديدا عن هذه اللوحة في الأيام الأخيرة كان سببه افتتاح متحف «ويتني» للفن الأمريكي بنيويورك في موقعه الجديد. المبنى الجديد تكلف بتصميمه المميز نحو 422 مليونا من الدولارات ويجمع بين جنباته أكثر من 22 ألفا من مقتنيات المتحف الذي بدأ تاريخه منذ 1931 وكان عدد مقتنياته في عام 1966 لا يزيد على ألفى قطعة. وكان مدير المتحف وهو يتحدث عن افتتاح المبنى الجديد حريصا على أن يشير الى لوحة «My Egypt» ويشيد بها ويحث الزوارعلى الوقوف أمامها وتأمل تاريخها. هذا المتحف بلوحاته المتنوعة وبرامجه المتميزة كما قيل «يعطي أجنحة للخيال والتحليق لكل من يزوره» «ان للطير شرفا ليس للانسان» هكذا يكتب جبران خليل جبران ذاكرا:»فالانسان يعيش في ظلال تقاليد ابتدعها لنفسه. أما الطيور فتحيا حسب الناموس الكلي المطلق الذي يسير بالأرض حول الشمس» وبما أن غناء الطيور أو أغنياتها مهما اختلفت لكناتها صارت هذه الأيام تحاصرنا من كل جانب و«تعانق آذاننا» وأيضا «تثير فضولنا» فلا مفر من الانتباه لها وتأملها والتفكير فيها وأيضا التفكير في دنيانا .. وفي الأغاني التي تتردد بداخلنا وحولنا. وعلينا بالطبع أن نطرح من جديد التساؤل اياه كيف الطيور بتغريداتها المختلفة تغني أو تتكلم أو تبتهج أو تبكي؟ وهل لغة الطيور في مصر تختلف عن لغة الطيور في ايطاليا أو اليابان؟ وهل الطيور سعيدة أم حزينة وهي تغرد وتغني ؟ وماذا يفعل الطير المنطو على نفسه؟ ومتى يخرج من صمته؟ ووسط هذه التغريدات لا مفر أن نسرح بالطيور ونطير معها .. وأن نعطي لخيالنا وأفكارنا أجنحة. وقد نصحنا مولانا جلال الدين الرومي بأنه طالما تكشف لك بأن لديك أجنحة فيجب أن تطير في السماء .. ولا تفكر أبدا في الزحف على الأرض. ومن المشاهد الخالدة في السينما العالمية هذا المشهد وهذا الحوار من الفيلم الأمريكي «Birdy» من انتاج عام 1984ومن اخراج آلن باركر. والفيلم يحكي عن عودة صديقين من حرب فيتنام. أحدهما أكثر اضطرابا ورغبة في أن يكون طيرا. يقول هذا العائد «بيردي»لصديقه: «هل تحب الحمام؟» فيرد عليه الصديق :»ماذا أحب فيها؟» فيرد «بيردي»: «انها تطير» وعندما يقول له صديقه: «انها تطير. وايه يعني؟» يأتي رد «بيردي»: «هذا يكفي». نعم، يكفي انها تطير وهذا ليس بالأمر الهين..أو الأمر الذي لا يعني شيئا. انها تطير وهذا يعني الكثير. ونذكر للمخرج التشيلي اليهاندرو خودورفسكي قوله الشهير «ان الطيور التي تولد في الأقفاص تعتقد أن الطيران نوع من الأمراض». ولجمال الغيطاني حكايات وحواديت مع الحمام واليمام اذ يكتب:«بالنسبة لي يعتبر الحمام من أقدم صور ذاكرتي،كنا نسكن في الجمالية،الطابق الأخير من مبني يتكون من خمسة طوابق، كان السطح يتبعنا ومنه كنت أطل علي الأفق القاهري، حيث المآذن والقباب،وغيات الحمام، كان يحلو لي أن أرقبها ما بين العصر والمغرب، إنه الوقت المفضل لإطلاق أسراب الحمام..» ثم يستطرد الغيطاني قائلا:»لا أدري هل السبب هو الوقت، حيث يلين الضوء وقت الأصيل صيفا، ويشف شتاء، أجمل الأوقات التي تبدو فيها سماء القاهرة عند الأصيل،عندما يدخل الأصيل،صيفا أو شتاء، ترصع أسراب الحمام الفراغ وأثناء علوها وانخفاضها تتغير أشكالها، وعندما يقترب سرب من آخر ينتقل بعض الحمام من واحد إلي آخر وهذا أحد أهداف إطلاق الاسراب في الفضاء، مع تغير الضوء واقتراب اللحظة التي ستغيب فيها الشمس يبدأ كل صاحب غية في إطلاق صفير خاص،أو التلويح بعلم ذي لون معين، كل سرب يعرف الصوت واللون، يهتدي بهما عند عودته إلي المأوي، بعودةالسرب يمكن لصاحب الغية أن يعرف، هل فقد بعضا من الحمام أم استطاع ضم زوج أو اثنين». والغيطاني الذي يهيم «وجدا في حكاياته» و»عشقا في سرده» أمتعنا ومازال يمتعنا بتفاصيل قاهرتنا وأهلها وحواريها وأحاديثها وهو لم يفته بالطبع الحديث أيضا عن هديل الحمام وصوصوة العصافير ونقيق الحدأة وصراخ البومة ليلا وورورة الكروان فجرا. وهو الذي ينبهنا: «للحمام عالم ثري وخصائص يعرفها الهواة، يبدو قريبا من الانسان، يعيش في أزواج كذكور وإناث ويعملان معا في تناسق علي تفريخ البيض وحضانة الصغار دون أي تدخل من المربي، الحمام هو الكائن الوحيد الذي يمارس التقبيل مثل الانسان، وقد أتيح لي أن أرقب غزل الذكر مع الانثي فرأيت ما جعلني أظن أنهما بشر متنكر في هيئة طائر. وحكي لي بعض قدامي الهواة عن فرد حمام فقد إلفه فانطوي ومات حزنا». وطالما نتأمل في هذه السطور الطير بطيرانه وتغريده نجد حبيبنا صلاح جاهين معنا في كل «فتفوتة في حياتنا» وهو يلمح ويلتقط - كعادته- اللحظة الحلوة (التي فيها طير وطيران) فينقلها إلينا لنستمتع بحلاوتها .. و»نطير معها». يقول جاهين: «عيني رأت عصفور ووياه ابنه بيحدفه في الريح وياخده ف حضنه نوبتين وتالت نوبة عجبي عليهم كانوا سوا بيرفرفوا ويغنوا عجبي!!» وجاهين أيضا ينصحنا وينبهنا ويذكرنا ويكرر على مسامعنا : «يا عندليب ماتخافش من غنوتك قول شكوتك واحكي علي بلوتك الغنوة مش ح تموتك إنما كتم الغنا هو اللي ح يموتك عجبي!!»