فى العام 1925 امتلك المسرحى الأيرلندى «برنارد شو» جرأة السخرية من «ألفريد نوبل» صاحب الجائزة الأشهر عندما أعلنت المؤسسة السويدية العريقة فوزه بجائزتها فى الآداب. قال «شو»: إنهم يُلقُون إليَّ طوق نجاة فى وقت أصبحت فيه سباحا ماهرا . لقد حاول مؤسس الجائزة أن يعتذر عن صناعة الديناميت بتأسيس الجائزة بينما كان يجب عليه أن يستمر فى صناعة الديناميت ويعتذر عن الجائزة ! كان «شو» يرى كبعض كبار المثقفين فى عصره أن الجوائز جميعها ذات طبيعة سياسية. أما الفرنسى «جان بول سارتر» فكان الأكثر حدة ووضوحا فى رفضه لها فى العام 1964، إذ قال إنه يرفض المؤسسات بأنواعها كما يرفض أى استخدامات سياسية للثقافة. ولأن الجوائز لا يمكنها أن تتخلى عن طبيعتها السياسية فقد كان من الضرورى أن يقول «سارتر» كلمة مختلفة عن كثيرين. كان ذلك يتساوق مع أفكاره عن الدولة، وهى أفكار مرتبطة بشكل ما بالفوضوية التى يجب أن تهدم كل سلطات الدولة لتبقى فيها سلطة واحدة هى سلطة الفرد. كان ذلك جزءا من أفكار «سارتر» الوجودية المرتبطة بشكل ما بالاشتراكية الفابية . النموذج البارز للرفض لم يحدث فى الجوائز العربية سوى عبر نموذجين بارزين. النموذج الأول أطلقه الروائى الكبير «صنع الله إبراهيم» برفضه جائزة الرواية العربية فى العام 2003 عندما اعتلى منصة التكريم بالمسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية حيث قال إنه يرفض قبول جائزة من نظام لا يملك القدرة على منحها. أما الأسباب فكانت قائمة من المخازى التى لحقت بنظام شبه فاشى أفقر العقل المصرى واستباح استقلاله وظل، حتى لحظة سقوطه، واحدا من أذرع الإمبريالية الجديدة. ورغم أن بيان صنع الله كان نبوءة مبكرة بثورة الخامس والعشرين من يناير إلا أن الرجل مازال يدفع أثمانا باهظة حتى أيامنا لقاء موقفه. أما النموذج الثانى فقدمه الروائى الإسبانى «خوان غويتسيلو» الذى رفض جائزة القذافى «200 ألف دولار» فى العام 2009، وذلك احتجاجا على فاشية النظام الليبى ورفضا لممارساته القمعية، غير أن احدهم استطاع تصحيح الخطأ الإسباني! بقبوله الجائزة بعد أيام من رفض غويتسيلو لها . لكن أحدا لن يستطيع أن يقدح فى ذمة الروائى الإسباني، فهو معروف بمواقفه النضالية ضد نظام الجنرال «فرانكو» وأحد كبار المدافعين عن الحقوق العربية كما أنه أحد أكبر الداعمين للقضية الفلسطينية. صراعات الرفض والقبول بين الدولة المؤسسة للجائزة ، أى جائزة ، وبين المبدعين والمفكرين والعلماء على اختلاف الأزمنة والأمكنة، تعزز القول بأن كل جائزة هى مشروع سياسى تبشيرى بغض النظر عن محتواه ، ولا أظن المرافعات العصماء التى تطلقها مؤسسات تلك الجوائز حول فكرة النزاهة تعنى أكثر من أنها نزيهة فى إطار توجهاتها السياسية ، وهذا لا يعنى التقليل من القيمة المعنوية لأي جائزة كونها نوعا من التكريس للقيم التى تعزز فكرة التعايش وقبول الآخر ومكافأة الموهبة وتعزيز المهارات ومن ثم الانحياز للمستقبل ، ويتعزز هذا المعنى كلما كانت الجائزة تعمل فى إطار أنظمة سياسية نزيهة وديمقراطية، لكنها تتحول ، الجائزة نفسها، إلى نقائض لمضامينها كلما كانت تمثيلا لنظام باتريركى عشائرى يحاول أن يغسل الكثير من مخازيه فى محراب القيمة الرمزية التى يكرس لها العالم والمفكر والمبدع باعتبارهم نماذج لأعلى التعبيرات الحضارية لأى أمة. فكيف لنا أن نصدق القذافى وهو يكرس جائزة عالمية لحقوق الإنسان ؟! وكيف لنا أن نصدق قطر وهى تمنح جائزة للإبداع الرفيع ؟! بينما هى واحدة من أكبر داعمى التوحش فى عالمنا عبر أقسى تعبيراته وأحط نماذجه، فضلا عن سعيها المريض نحو احتكار العمالة العربية بهدف تكريس وجودها كصبيٍ يُعتمد عليه بين صبيان الإمبريالية فى المنطقة. دفعنى إلى هذه التقدمة ذلك الصخب الإعلامى الكبير الذى صاحب إعلان الجائزة القطرية الجديدة «كتارا» التى حصل عليها عدة كتاب عرب بينهم الروائى المصرى إبراهيم عبد المجيد. وإن كنت لا أشك أبدا فى أن إبراهيم روائى أكبر من الجائزة القطرية فإننى لا أشك أيضا فى أن فوز روائى مصرى كبير بدورتها الأولى لا يمكن إلا أن يكون سياسيا. لقد كانت إدارة الجائزة حريصة أيضا على إعلان أن أكثر من 35% من الذين تقدموا للجائزة من بين الكتاب المصريين، كما كان الحرص أيضا على إعلان أن اثنين من محكميها من المصريين اللامعين غير المختصين بالحقل الذى يحكمون فيه لكنهم يملكون من الذيوع الإعلامى الكثير! فضلا عن كونهما من أنصار ثورة الثلاثين من يونيو وبين المؤيدين للرئيس السيسى ، وكأن الرسالة القطرية فى جملتها تتحدث عن الاختراق الذى يمكن لها أن تصنعه فى قلب وعقل النخبة المصرية ، أى فى قلب قوة مصر الناعمة. لا أدين أحدا بطبيعة الحال ولا أملك ذلك. كما أننى لست مؤيدا ولا معارضا لمن تقدموا للجائزة أو لمن فازوا أو كانوا ضمن هيئة تحكيمها، غير أن هذا التسامح الذى أرانى مجبرا على تجرعه كسم زعاف، لا يجب أن يعفى النخبة المصرية من مساءلة واجبة عليها أن تجريها مع نفسها فى مواجهة ذلك المشهد المفرط فى تناقضاته، فمن يسهر ليله ليدبج الشتائم لثورة الثلاثين من يونيو باعتبارها امتدادا لنظام مبارك سيكون من العسير علينا أن نتفهم قبوله العمل مع نظام سيحتاج إلى أن يقطع مئات من السنين الضوئية حتى يصل إلى المركز الحضارى الذى تقف فيه مصر. أقول هذا وأنا أحاول ألا أستثير المزيد من المشاعر الوطنية حول الموقف القطرى من الدولة الوطنية عامة ومن الدولة المصرية على نحو خاص باعتبارها أعلى تمثيلات هذا النموذج فى الوطن العربي. وكما أن الرسالة القطرية أقبح من أن تدارى سوءتها بلاغة الفائزين أو عطايا المؤسسين؛ فإن رسالة الدولة المصرية لنخبتها أقبح من أن تدارى سوءتها خطابات إنشائية من مؤسسات خربة يجلس على رأسها رجال لا يدينون بالولاء إلا للفساد، وكانت النتيجة أن أفسدوا عقل الأمة قبل أن يفسدوا جوائزها. لذلك فإن ما حدث ويحدث من إزاحة يعد ثمنا طبيعيا للفجوات التى تشكلت عبر فشل يبدو، بكل أسف، سرمديا وبلانهاية. لمزيد من مقالات محمود قرنى