غالبا ما نمر مرور الكرام على «إفيهات» عباقرة الكوميديا عندنا، فنضحك ملء أشداقنا، ثم نمضى، غير عابئين بالمعانى الخفية، والإسقاطات الباطنية لتلك الإفيهات، مع أنها تصلح لأن تكون معجما، أو أطلسا حاويا لخرائط وأحداث تاريخنا المعاصر كله. وإليك إن شئت هاتان المقولتان الفذتان، اللتان أبدعهما الفن المصرى الحديث، واللتان هما خفيفتان على اللسان، ثقيلتان فى المعنى، ولو أننا توقفنا عندهما قليلا لوجدنا فيهما الخير العميم: المقولة الأولى- التى تبدو وكأنها مجرد كلام ويعدّى- هى الدرة المكنونة والجوهرة المصونة التى نطق بها الراحل سيف الله مختار، فى مسرحية «حضرة صاحب العمارة» عندما سأله أبوه فى المسرحية( الراحل العبقرى فايز حلاوة): شربت ليه جردل الكازوزة كله يا ابنى؟ فيرد مختار بمنتهى البراءة: حلوة وصاقعة ما اشربش ليه؟! تضحك؟ اضحك.. لكن تمعن وفكر قليلا.. ثم اسأل روحك: هل كان مختار- مثلا مثلا - يقصد بالحاجة الصاقعة المال العام؟ قل لى: لو أن سيادتك وجدت المال العام سائبا متراكما فاتحا لك ذراعيه لتمد كفيك وتكبش.. ألن تكبش؟ ولم لا وقد هبش أخوة لك من قبل؟ فإن أنت فعلتها وهبشت.. فهل للائم أن يتجرأ ويلومك؟ طبعا لا.. وكيف يلومك وهى «حلوة وصاقعة ما اشربش ليه»؟ وهل يلومنا اللائمون إن نحن سألنا: كم من جرادل الحاجة الصاقعة تم- ويتم حتى الآن- شفطها دون حسيب أو رقيب؟ بذمتك ودينك.. ألا تصلح تغريدة مختار هذه عنوانا لمرحلة، وشعارا لحقبة زمنية، دفعنا ومازلنا ندفع ثمنها حتى اليوم- بدلا من الدموع- دما وفقرا وأحقادا وألما وإرهابا؟.. ثم ألا يزال البعض منا( بل الكثيرون!) يتجرعون جردل الحاجة الصاقعة حتى ثمالته، فلا يتركون لنا إلا الندع( جمع ندعة)؟ فإن قالوا لك ها نحن نرشد لكم الدعم فقل لهم: هل حقا رشدتموه.. فلماذا إذن لاتزال تماسيح الأسواق فاغرة أفواهها تلتهم قروش الغلابة التهاما؟ وإن قالوا: سنكافح الفساد.. فقل: هل حقا قاومتموه.. فكيف إذن لم نر النتائج حتى الآن.. أو نر الفاسدين خلف القضبان؟ .. ونذهب الآن إلى الدرة الثانية، تلك التى تغنت بها الراحلة ليلى نظمى فى السبعينيات، والتى أصبحت أيقونة فيها من المضامين ما يستعصى على الحصر، ألا وهى «ما اشربش الشاى.. أشرب آزوزة أنا». والواقع أن الكثيرين تعجلوا، فتمايلوا طربا، لكنهم لم يتوقفوا عند السؤال الأساسى وهو: لماذا أصلا تمنّعت ليلى عن الشاى وفضّلت عليه الآزوزة(التى هى بالمناسبة الكازوزة نفسها التى عبّها سيف الله مختار عبّا)؟ الإجابة واضحة يا عمنا؛ إن الشاى هو مشروب الغلابة، وما كان للغندورة أن تقبل بأن تبقى غلبانة إلى الأبد. وهل يلومها لائم إن هى حلمت فرغبت فى الخروج من قمقم الهوان والعوز وضيق ذات اليد والحاجة وتوقفت عن شرب الشاى؟ طيب لو أن الأمورة رضيت بحالها، واستمرت فى شرب الشاى، فمن ذا يضمن لها ألا يخرج عليها كبير من الكبراء، صارخا فى وجهها:«أولاد شاربى الشاى لا مكان لهم فى وظائفنا الكبرى؟».. هل كتب على المسكينة أن تظل تتجرع الشاى وحدها بينما الآخرون يتلذذون بالكازوزة اللذيذة دونما حسيب أو رقيب؟ للوهلة الأولى، قد يبدو أن بين كازوزة مختار وشاى ليلى قواسم مشتركة عديدة.. غير أن ذلك هو فى الظاهر فقط، أما الحقيقة فهى أن بين العالمين (الشاى والآزوزة) تناقضا جذريا متأصلا.. سينفجر مع الزمن.. فما كان للبارد والساخن أبدا أن يجتمعا. خلاصة القول؛ إنك لو سمعت أى «إفيه» فى مسرحية، أو «مقطع» من أغنية، أو مشهد ساخر فى فيلم، فلا تضحك ثم تمضى، بل فكر، ولا تأخذ الكلام على عواهنه، واقرأ ما بين السطور.. وساعتها سوف ينفتح أمامك منجم من المسرات لا ينفد.. هيا حاول التنقيب والاستكشاف.. ولن تندم! لمزيد من مقالات سمير الشحات