أصابها مرض عضال، منذ خمس سنوات، لكنها لم تسمه أو تفصح عن نوعيته، أو تعين أين هو من خريطة جسدها، أو متطلبات علاجه، وكذلك لم تكشف عما إذا كان قد ارتحل، وما معطياته المباشرة والخفية والمتبقية، لكنها اعترفت أن ارتباطًا ظل يعاودها منذ ذلك التاريخ، تجلى فى حلم متكرر كل ليلة. هل يعنى ذلك أن الحلم ارتهن بالمرض، أم أنه ظهر بعد رحيله؟ وهل اندراج الحلم فى خانة الارتباط الزمنى للمرض، يعنى أنه وليد تأثيره، أم أنه دلالة الشفاء؟ صحيح أن المتكأ العلمى يؤكد أنه لابد من التسليم بأن المتغيرات السلوكية فى اليقظة والحلم، تكون مقرونة بإصابات الدماغ وجراحاتها، لكن الصحيح أيضًا أن قبول ما يطرحه العلم، يختلف من مجتمع إلى آخر؛ لارتباطه بإيجابية الصيغ العليا الاجتماعية تجاه ما يطرحه العلم، وكذلك وسائل التوجيه العقلى فى المجتمع. يبدو أن المرأة لم تسع إلى الاستشارة فى شأن حلمها المتكرر كل ليلة؛ ربما لأن حسها الغامض أوعز إليها أن ذلك الحلم محض حالة تتجاذب الإنسان ثم تزول، أو لإدراكها أنها حالة تحد فرضت عليها؛ لذا استجابت لاقتضاءاتها بشجاعة قبول مواجهتها، أو ربما لأن تكرار الحلم قد رسخ فى أعماق شعورها الفردى علاقة حققت لها جانبا من الاستمتاع الذاتى الغامض، الذى جسد سجالا بين واقعها بنقصانه، ومعاناته، ومحدودية ممكناته، وبين معطيات الحلم المتوهج جمالا، والمفجر لإرادة الفرح الإنساني. إن الفرح الإنسانى تحققه السعادة؛ بوصفها الحلم المرافق للوجود، والسعادة لا تتحقق بوصفها استحقاقًا، إلا بمجموع إمكانات الكائن الإنسانى وعزمه، وقد تظل السعادة حلم يقظة، وتطلعًا، حتى يتخطى راغبها عقبات التوجه الصحيح نحو سعادته؛ عندئذ يتسع أمامه مشهد الوجود، وقد تتبدى السعادة لراغبها فى صورة حلم ليلى دائم ومبهم، وكأنها تنتظر رهانها من راغبها كى تتحقق، إذ تظل السعادة بواسطة الحلم الدائم ليلا، تدفع عن راغبها التعامي، والتجاهل، أو الجهل، بل تحرضه وتستثير عزمه وتدفعه كى ينتجها حقيقة فى حياته. إن حلم المرأة الليلى الدائم، تتمظهر بنيته فى شكل منزل فى الريف، يتبدى أبيض ومنخفضًا وفسيحًا، مناقضًا لما تسكنه المرأة، حيث تشغل مسكنًا مقولبًا من مساكن المدينة، والمغزى الحقيقى لمنزل الحلم أنه يدعم جغرافيا الريف، بما توفره من إغراء المتع المباشرة، والشعور بالأمان، المترافق مع الحرية؛ إذ تحيط بالمنزل أيكة من أشجار الزيزفون، وإلى يسار المنزل مرعى وافر، تحده أشجار الحور التى تتطاول وتتمايل فى دلال لتعلو فوق أشجار الزيزفون. كانت المرأة تسير فى حلمها منجذبة إلى ذلك المنزل الشبيه بالقصر؛ إذ عند المدخل بوابة بيضاء، بعدها تجتاز المرأة رواقًا بديعًا تظلله الأشجار على الجانبين، وثمة ورود وأزهار، ورياحين وشقائق نعمان، وحين تمد المرأة يدها لقطفها إذ بالورود والأزهار تذوى فى الحال. لا شك أن الأزهار التى استحالت رمادًا، لحظة قطف المرأة لها، قد ولدت معنى بصريًا ملحًا، وإدراكًا لمعنى التقارب والتباعد، إذ المنزل الحلم ليس ممتنعًا عن رؤية المرأة له، بل متقاربًا منها لتستطلعه، لكنه ممتنع ومتباعد عن الخضوع لها؛ لذا لم يسمح لها بالحصول على وروده، لأنه ما زال محض حلم لم يتحقق بعد، ورهان الانفتاح عليه فى امتلاك الإدراك الواعى بالطريق إليه. هل تلك إحدى استثارات الحلم لراغبه؟ تواصل المرأة فى حلمها استشرافها المنزل المبنى بالصخور البيضاء، والمسقوف بألواح من الإردواز الأزرق، وبابه الرئيسى المصنوع من خشب البلوط، وفى مواجهته مرج واسع أخضر، فيه حوض كبير، يعكس التباين التكوينى للألوان؛ إذ يحوى أزهار البنفسج، وورودًا حمراء وبيضاء تضفى روعة وبهاء على البساط الأخضر. تعلن المرأة لهفتها وشغفها ورغبتها العارمة فى دخول المنزل، ثم تنعى انهيار أملها بخيبة دون أسباب؛ إذ مرارًا تدق الجرس طويلاً، وتنادى بصوت مشحون يشف عن عمق رغبتها، ولم يجبها أحد، وللمرة الثانية يرفض منزل الحلم الاستجابة للمرأة، فلا يسمح لها بالدخول، لأنه ما زال حلمًا لم تحققه بعد، وفى النهاية تصحو المرأة من النوم، وقد نسيت تفاصيل الحلم. ترى ماذا يعنى ذلك التعلق الكسول من المرأة، فى تبديدها للزمن، وتأبيدها لهذه اللحظة، فظلت سعادتها مؤجلة خمس سنوات؟ هل عجزها عن الإحساس بالزمن، وموت ذاكرتها، وعماؤها عن ذلك النقصان، يشير إلى احتمال إصابتها بمرض يماثل ما يعرف بعمى العاهة، الذى يؤدى إلى تلك التغييرات السلوكية، حيث يجهل المريض عاهته، خاصة والمرأة قد أشارت إلى المرض العضال الذى أصابها، وارتبط به حلمها الليلى المتكرر خمس سنوات. لكن المرأة تحكى عن عزم تلقائي، تجسد فى فكرة جريئة استقطبتها، فصارت هوى، ولم تستطع لها دفعًا، فهى كالأمل فى تطلعها المضاد لكل تسلط رصيد السنوات الخمس، وكالشغف فى حماستها تسعى لأن تبرأ من كل عاهاتها؛ بأن تنطلق بسيارتها بحثًا عن المنزل الحلم. بذلت المرأة جهدًا تفاصيله كثيرة، إذ ذهبت إلى نورماندي، وتورين، وبواتو، دون أن تظفر بهدفها، وعندما عادت إلى باريس لاحقها الحلم، فعاودت رحلتها فى الريف المحيط بباريس؛ فإذ بها تعثر على منزلها الحلم بجميع خصوصيته، وتفاصيله، وتشكيلاته، وأشجاره، فهرعت إليه، وسألت الخادم عن أهل المنزل، لاستئذانهم فى معاينته والفرجة عليه، فأخبرها أن المنزل مهجور، وهو المفوض بإجراءات البيع، فسألته عن سبب هجرانهم المنزل، فأجابها بأنه مسكون، وأضاف أنه لم يصدق ذلك إلا عندما شاهد الشبح يتجول كل ليلة بالحديقة، وعندما علقت المرأة ساخرة، بأنها حكاية مضحكة، أجابها الخادم بأن الشبح الذى كان يراه كل ليلة لم يكن أحدًا سواها هى تحديدًا. غمرت المرأة مشاعر الفرح الإنسانى الطاغي، يقينًا بأنها قد عرفت الطريق الصحيح إلى سعادتها. إن الكاتب الفرنسى أندريه موروا (1885 ذ 1967)، بالدلالات الملتمعة فى قصته التى بعنوان (المنزل)، وإيحاءاتها ورموزها، قد كشف حالات الضعف الإنسانى ومواجهتها، فقد استطاعت المرأة أن تشحذ وجودها الكيانى وتعتصم به لتواجه عوائق الواقع وعقباته، ووهن الجسد وانخذاله، إذ استنهض كيانها عزمها على الإدراك الواعى للطريق المؤدى إلى سعادتها الحقيقية فى الوجود، وليس فى الحلم، كما فرض كيانها ضرورة الاجتهاد الذاتى على أحوالها بيقين العزم المستمر، إذ العزم ليس عزمًا إلا من أجل الوجود. لقد رفضت المرأة أن يصبح كيانها شبحًا، فاعتصمت به ليكون حارسًا على وجودها، فالإنسان يغدو موجودًا وفاعلاً بكيانه؛ لذا فالمعركة التى يواجهها المصريون من دوائر الشر بتوجهاتها الأمريكية، تستهدف أن يصبح كيان المصريين شبحًا، محوًا لذاكرتهم الجماعية الآمرة، وذلك بمغالقة دوائر تواصلهم فهمًا وتفاهمًا، وضخًا للتوجهات الباطلة والمتصارعة المفتوحة على كل التحريفات، محاصرة لوعى الجماعات والأفراد، احترابًا للكل ضد الكل، فرضًا للهيمنة، لكن المصريين لا يفتقدون الاتجاه؛ ليقظة جهد وعيهم بكيانهم، بما يحملونه تحت أدمغتهم وأرواحهم، واعتصامهم به، وأيضًا لدوام حضور عزمهم. لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى