هكذا استقال وزير العدل إثر تصريحه الصادم بعدم جدارة أبناء عمال النظافة فى الالتحاق بالهيئة القضائية. يشى التصريح بدلالات ويكشف عن حقائق. دلالات التصريح موجعةٌ ولهذا جاءت ردود الفعل ( العلنية ) فى معظمها محتدّة وغاضبة، وفى أقلها متفهمةٌ للتصريح وإن كانت ردود الفعل من النوع الأخير لم تخرج إلى العلن وظلت حبيسة الجلسات المغلقة. وهذا بذاته نوع من الازدواجية المصرية المعروفة التى تبطن غير ما تُعلن لأسباب مزمنة ومعقّدة يختلط فيها السياسى بالثقافى بالنفسي. وهنا تحديداً تبدو الإيجابية ( الوحيدة ) فى تصريح وزير العدل السابق. فقد قال الرجل رأيه الصادم بصراحة، وكان بوسعه أن يلوذ بالصمت ولا يخوض فى سياسة التعيين المتبعة منذ عقود فى الهيئة القضائية. ثم فاجأنا الرجل بتصريح لاحق على تقديم استقالته يصرُّ فيه على رأيه السابق . فهل فعل ذلك لأنه كما رأى البعض يفتقد الحصافة السياسية التى يجب أن يتحلى بها المسئول الحكومى ؟ أم لأن الرجل ما زال مصمماً على أن يعلن ما يؤمن به ؟ أياً كانت الإجابة فجرأة التصريح وما أثاره من غضب ورفض أكبر من أى محاولة نظرية للتفسير. وقد تجاوزت أصداء التصريح حدود المجتمع المصرى لتفرض نفسها مثلاً على السفارة البريطانية فى القاهرة التى أعلنت عن ترحيبها بالتحاق أبناء عمال النظافة المصريين لديها. جاء إعلان السفارة البريطانية ليمثل أقصى ( وأقسى ) رد فعل ينطوى على الاستنكار ( والإهانة ) لما يفعله المصريون فى بنى جلدتهم. ولسوف يبقى تصريح وزير العدل السابق لمئات السنين المقبلة مقولةً يعكف عليها المؤرخون والباحثون بالدراسة والتحليل لأنها تمس صلب قضية العدالة الاجتماعية والمساواة فى بلادنا. ربما يجيء مؤرخ بعد عشرات أو مئات السنين ليعلِّق على وقائع حاضرنا فيكتب متندّراً أو ساخراً أنه فى يوم من الأيام أعلن الوزير المسئول عن (العدالة ) فى مصر رفض التحاق أبناء المهن اليدوية فى وظيفة قضائية. لا نعرف هل ستكون العدالة الاجتماعية يومها قد كسبت معركتها فيصبح هذا التصريح محلّاً للسخرية ؟ أم ستكون الثقافة الطبقية قد حققت انتصارها النهائى على العدالة الاجتماعية فيخشى الناس يومها من مجرد ذكر كلمة المساواة على شفاههم ؟ سترى الأجيال المقبلة كيف سيقول التاريخ كلمته، لكن علينا أن نتذكر أنه منذ خمسين أو ستين عاماً فقط كان من المستحيل تصوّر وصول باراك أوباما إلى مقعد الرئاسة وهو الأسود ذو الأب الإفريقي، أو أن يصبح جيرهارد شرودر رئيساً لوزراء ألمانيا وهو الذى كان ينام فى حظيرة للحيوانات ملحقة بمنزل تعمل أمه الفقيرة فى خدمة أصحابه. تبقى برغم قسوة التصريح إنسانياً ومخالفته لنصوص الدستور قانونياً مسألة لا تخلو من إيجابية، وهى سرعة تقديم وزير العدل استقالته. وبصرف النظر عما إذا جاءت استقالته محض اختيارية أم كانت موجّهة بتعليمات عليا، فالمؤكد فى نهاية المطاف أننا شاهدنا وزيراً يستقيل على خلفية رد الفعل الغاضب للرأى العام. هذا سلوك مألوف فى المجتمعات الديمقراطية حيث يُتَصوّر أن يستقيل الوزير اعتراضاً على ما يخالف مبادئه الفكرية أو لتغير الحكومة الحزبية التى ينتمى إليها أو ربما تتم إقالته جبراً لكن هذا لا يعنى بالضرورة نهاية مسيرته السياسية فى العمل العام. أما فى بلادنا فالاستقالة أو الإقالة تشبه الحكم بالموت السياسى لصاحبها. وبخلاف دلالات الاستقالة فإن الحقائق التى تكشف عنها صادمة. فها نحن نعترف رسمياً وللمرة الأولى بأن هناك فئات اجتماعية فقيرة ومُهمّشة يتم استبعادها فى صمت من التعيين فى الوظائف القضائية. بالطبع كانت الناس تعرف ذلك وتشعر به لكنها اليوم تعلم به من خلال تصريح رسمى لوزير مسئول. الحقيقة إذن كانت معروفة ومّسلّماً بها. كل ما فعله الوزير المسئول أنه كشف عنها. وجه الحيرة أن يحدث هذا بعد ثورة عنوانها العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. ومظهر التناقض أن استبعاد أبناء ذوى المهن اليدوية الشاقة هو أمر جديد بدأ تطبيقه منذ نحو خمسة وعشرين عاماً تقريباً، أما قبل ذلك فكان يتم قبول أبناء هذه الفئات فى هيئة النيابة العامة. وكثيرون من أشراف القضاة اليوم كانوا أبناء فئات بسيطة ومكافحة. هؤلاء الأشراف الأماجد قبضوا على رسالتهم النبيلة كما القابض على الجمر ولم يأخذوا من وظيفتهم إلا الفتات المغموس بالستر والشموخ ( الحقيقى هذه المرة ! ) فما الذى حدث حتى يتم الارتداد على هذه المبادئ والمكتسبات ؟ نعم تصرّفت الحكومة بسرعة بديهة وسارعت إلى تصويب خطأ التصريح العلنى ، لكن متى تقوم الحكومة بتصويب خطأ الواقع وتبادر إلى تقنين الأمر ؟ المفارقة التى يبدو أنها تجاوزت فطنة بعض المسئولين أنهم لم يتذكّروا أن جميع رؤساء مصر منذ بداية العصر الجمهورى لم يحصل آباؤهم على مؤهل جامعي. تبقى الإشكالية الأخيرة فى الموضوع والتى تنصب تحديداً على مهنة عمال النظافة. هنا أيضاً لم يدرك البعض أن هناك فارقاً بين الفقر وبين الوضاعة. الفقر لا يجب أن يكون سبباً للاستبعاد من الهيئة القضائية لكن الوضاعة وحدها هى ما يوجب الاستبعاد. فلا ينتقص من سمعة القضاء التحاق الفقراء به متى كانوا 1- أكفاء 2- شرفاء. لكن يمس بنزاهة القضاء تعيين الفاشلين والوضعاء فيه ولو كانوا من الأغنياء. خلاصة الأمر أن هناك معيارين وحيدين يجب الاحتكام إليهما فى مسألة الالتحاق بالهيئة القضائية هما الكفاءة العلمية والجدارة الأخلاقية وذلك من خلال اختبارات ومقابلات مدروسة ومُطوّلة حتى لو استغرقت شهوراً طويلة. وكل جدل خارج هذين المعيارين يبتعد بنا عن جوهر القضية. قالوا: ما أحوجنا للتفرقة بين فقر الفكر.. وفكر الفقر لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم