«العجوز والبحر».. «أجمل البحار».. قصائد عديدة كتبها فى حب الأزرق العميق وصاغها بكلماته الشاعر التركى ناظم حكمت، الذى تمر ذكراه هذه الأيام. شأن الموج، كانت حياته متقلبه، متجدده.. تحمل أسرار.. وأخطار.. وخيال وسحر. شيوعى الفكر، صوفى الهوى، من أسرة أرستقراطية.. رفض «ناظم» الإقطاعية مما دفعه للمشاركة فى حركة أتاتورك. وحينما عارض نظامه، واجه الإعتقال حتى 1950. كما منعت أشعاره فى تركيا بعد اعتناقه للفكر الشيوعى وسحبت منه الجنسية فى 1951 ليموت وهو يحمل الجنسية البولندية. صحيح أنه استردها بعد وفاته.. لكن إعادة المواطنة التركية إليه - بعد 58 عاما من إسقاطها- اعتراف متأخر بشاعر سافرت قصيدته إلى أكثر من 50 لغة!! ياوطني .. ياوطني إهترأت قبعتي التي إشتريتها من دكاكينك تقطع حذائي الذي حمل تراب شوارعك آخر قميص إشتريته من تركيا صار مقطع الأوصال منذ زمن ياوطني .. لم يبقى لدي منك سوى الشيب في شعري ماعندي منك غير خطوط من الهموم تعلو جبهتي بلغة متحررة من الوزن، رقيقة أحيانًا وصارخة عنيفة أحيانًا أخرى، نقل الشاعر أوجاعه وهموم وطنه. لذا، عشق الناس كلماته ورددوها، ولم تقوَ عليها الحكومة التركية التي منعتها من النشر حينًا من الزمن. رحل وهو يقول: «لو وضعوا الشاعر في الجنة.. لصاح: آآآآه يا وطني». من هذه الكلمات استوحى الشاعر الفلسطينى محمود درويش قصيدته (النزول من الكرمل) والتى ذكر فيها عذابات وجراحات الفلسطينى، قائلا فيها: «أدخلوني إلى الجنه الضائعة.. سأطلق صرخة ناظم حكمت.. آآآآه يا وطنى!». كذلك، تأثر بمدرسته الكثير من الشعراء العرب مثل: عبدالوهاب البياتى، وبلند الحيدرى، ونزار قبانى... وفى رثائه، كتب صلاح جاهين: «من سنة مش جيت ودورت هنا.. ع الولد اللى فى قصيدتك بورسعيد؟.. قلبه كان تفاحة خضرا ومات شهيد.. مش لقيته من جديد؟.. ولقيت قلبه حديد؟.. ولقيت شعرك على لسانه نشيد؟.. ولقيت شعرك بيتجسد على مر الزمن؟.. ليه تموت يا عم ناظم.. قبل ما أزمير تغنى لك كمان؟.. كنت عشت.» بينما رثاه الشاعر نجيب سرور، قائلا: «نَمْ يا صديق.. من حق قلبك أن ينام.. فطالما حرموه أن يغفو هو القلب الرفيق.. كانوا هنالك شاهري الأنياب والأظفار في كل منعطف على طول الطريق.. نم يا صديق.. من حق قلبك أن ينام فكم أقضوا مضجعه.. كم خنجر غرسوه ما بين الشغاف فأوجعه.. يا ويحها « إستامبول» في ليل الخناجر».
المدينة الباسلة لا شك أن البحار التى كان ناظم حكمت يبحر فى مياهها عالية الموج وقاسيه. على عكس الريح التقليدى، وجّه الشاعر التركى شراع مركبه إلى جزر القهر والظلم لنصرة الحق فى كل بقاع الأرض. كانت قبلته إلى المدينة الباسلة «بورسعيد» فى نوفمبر 1956، تضامنا معها فى مواجهة العدوان الثلاثى الغاشم.. راح يرسم «ناظم» بأبجديته لوحة رائعة، ترجمها فؤاد حداد.. يقول فيها: «فى بورسعيد يا مين يعد المراكب.. فى بورسعيد الشمس دايماً تقارب.. والغيمة دايماً بعيد. وفى بورسعيد منصور بيمسح جزم.. شوف راسه محلوقه وحافى القدم.. عمره عشر سنوات. منصور فى عود وفى لون نواة البلح.. منصور ولد خفه وطول ما سرح على سبحة الموال يقول ويعيد.. «يا حبيبى يا عينى» حرقوا البلد بورسعيد.. قتلوا الولد منصور.. شفت النهاردة فى الجرايد صورته.. ميت صغير فى زحمة الأموات.. عمره عشر سنوات.. « يا حبيبى يا عينى».. وكان فى عود وفى لون نواة البلح». سجّل «ناظم» اسمه فى تاريخ الشعر والنضال بعد أن عاش حياته فى كفاح طويل بطولها مدافعا عنيدا عن المظلومين والمحرومين وحقوقهم المهدورة فى العالم أجمع. ولعلّنا نحب أن نرى فى قصائده شيئاً من صورنا وأصواتنا خاصة حين نتذكر أن أول دواوينه الشعرية كتبها بالحروف العربية، قبل أن يصدر أتاتورك قراره الشهير باعتماد الحروف الأجنبية. ستة وخمسون عاماً من مجموعة الأحكام التى صدرت ضد ناظم حكمت، أمضى منها ست عشرة سنة فى السجن. جرّب مذاق المنافي والسجون، وتجرّع مر الفراق حتى حفظه عن ظهر قلب.. حتى آخر يوم فى حياته ظلّ محبّاً للحياة وللإنسان، ثائراً مفعماً بالتفاؤل.. حاولوا كثيرًا وطويلًا أن يسحقوه ولكنه كان عصيًا عليهم.. «أَحَبُّ وطن إليّ هو الأرض... حين يأتي أجلي، غطوني بسطح الأرض».