التحركات التى تشهدها مصر الآن على مستوى أكثر من أزمة عربية، ذكرتنى بعبارة مهمة قالها سفير دولة كبرى فى القاهرة، وهى «لو أن مصر بعافيتها السياسية، لما وصلت الأزمة السورية إلى هذا التدهور»، حيث تزامن تصاعد حدة الأزمات مع تزايد المشكلات فى مصر. بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع العبارة السابقة، لكنها موحية على أهمية الدور الذى تلعبه مصر فى المنطقة العربية، وقدرتها على ضبط موازين بعض القضايا، التى تكالبت عليها قوى من داخل المنطقة وخارجها، وأدت إلى اشتعال أزمات، كان من الممكن اطفاء عدد منها، أو على الأقل تخفيف الخسائر التى أفضت إليها، لو أن مصر كانت أكثر تماسكا مما بدت عليه وقت اندلاعها، فقد تواكبت الثورة السورية مثلا، مع محاولات لملمة الجراح التى تكاثرت مع ثورة 25 يناير، وما تلاها من تداعيات سياسية وأمنية. عندما بدأت مصر تسترد روحها الحضارية وتتجاوز مجموعة معتبرة من المشكلات، بدأت أيضا تسترد أنفاسها على صعيد الاهتمام بعدد من الأزمات العربية، وخلال الفترة الماضية كانت غالبية التصورات والتصرفات السياسية تسير فى خطوط متوازية، ففى الوقت الذى كانت هناك تحركات لضبط البوصلة الإقليمية والدولية نحو مصر، كانت هناك جهود لتخفيف التوترات التى تهدد الأمن القومى العربي، ومقاربات مختلفة تتم دراستها للدفاع عنه، وتأكيدات بعدم التفريط فى مقدراته، لصالح أى من القوى الطامعة فى السيطرة عليها. الأسابيع الماضية، شهدت مجموعة من اللقاءات والحوارات والمناقشات فى القاهرة، بشأن بعض الأزمات العربية الساخنة، أوحت لكثيرين أن مصر فعلا على وشك أن تعود لها العافية كاملة، وأن هناك رغبة قوية من قبل جهات عربية لطلب المساعدة عمليا، وفى هذه اللحظة لا تملك رفاهية الاختيار بين استمرار الانكفاء، والامساك بدفة المركب العربى قبل غرقه تماما، فالأحداث الدرامية تتوالي، والتطورات المفاجئة تتعاظم، بصورة لا أحد يعلم حجم الغموض الذى يكتنفها، لذلك لم يكن أمامها سوى الاستجابة، وعدم التخلف عن نداءات الواجب العربي، لتسهيل أدوات الحلول السياسية فى عدد من الأزمات المستعصية. معالم هذا الاتجاه ظهرت بجلاء فى ثلاث قضايا، أصبحت تمثل جوهر الأزمات فى المنطقة، من حيث التشابكات والتعقيدات والانعكاسات، فضلا عن الأهداف المريبة، فكانت زيارة إسماعيل ولد الشيخ مبعوث الأممالمتحدة لليمن بمثابة اعتراف بأهمية الدور المصرى فى تسهيل الطريق للتسوية السياسية للأزمة، قبل عقد مؤتمر جنيف أواخر الشهر الجاري، كما أن اللقاءات التى عقدتها قوى يمنية مع المبعوث الأممى أو بدونه، كشفت عن رغبة فى زيادة هامش الحركة أمام الدور السياسى لمصر، كضامن نزيه للحوار المتعثر فى اليمن. إذا كانت زيادة مساحة الدور السياسى محكومة بتوازنات إقليمية دقيقة، فإن المؤشرات التى ظهرت خلال الأيام الماضية، أكدت أنه لم تعد هناك فرصة لتجاوزه، ليس فقط للثقل الإقليمى والمكانة التاريخية، لكن لأن مصر لا تزال طرفا نزيها ومقبولا من معظم القوى اليمنية، ويمكن الوثوق فيه، بسبب عدم امتلاك أجندات خفية، والقدرة على احتواء احتقانات ومرارات يمنية نحو قوى إقليمية، تريد ترتيب الأوضاع وفقا لمصالحها، بالتالى من المتوقع أن يتزايد دور مصر كلاعب سياسى أساسي، يمكنه ضبط بعض أوجه الخلل الذى ينجم عن انحراف تصورات آخرين. هذه الميزة، فرضت على كثير من القوى الليبية أيضا عدم تجاوز دور مصر، فقد عقدت لقاءات واجتماعات فى أماكن مختلفة، فى سويسرا والجزائر والمغرب وتونس وليبيا، ولم تتقدم التسوية السياسية قيد أنملة، ولم يحرز الحوار الوطنى هدفا يمكن البناء عليه، وبدت دول كثيرة غير عابئة بالرؤية المصرية، بل سعت إلى اقصائها وتغييبها عن عمد، وعندما أخفقت جولات الحوار، تم اللجوء إلى القبائل الليبية كمدخل للمساهمة فى تخفيف حدة الأزمة. ومن المنتظر أن تستضيف القاهرة الملتقى الثانى للقبائل الليبية يوم 25 مايو الجاري، والذى يؤكد أهمية التفكير خارج الصندوق، وصعوبة تجاوز دور مصر فى أى طرح سياسى بخصوص ليبيا، وأن هذا المؤتمر من الممكن أن يكون نواة حقيقية للحل، بعيدا عن الشعارات والمزايدات التى جعلت هذه الدولة واحدة من بؤر الإرهاب الرئيسية فى العالم. الموقف فى الأزمة السورية، ربما يفوق فى التعقيدات كلا من الأزمة فى اليمن وليبيا، كما أن تفاصيل التقديرات المصرية لا تختلف كثيرا عنهما، ومر التعامل معها بثلاث مراحل أساسية، ابتعاد ثم تردد وأخيرا اقتراب حذر، الأمر الذى جاءت معالمه الظاهرة عبر قناة المعارضة السورية، والتى تستعد القاهرة لاستضافة اجتماعها الثانى فى شهر يونيو المقبل، وهو دليل آخر على ضرورة الحاضنة المصرية للأزمات العربية، ليتسنى المساهمة فى تسوية متوازنة، تضمن عدم الانجراف لطرف على حساب وحدة الدولة السورية. لتكون التدخلات أكثر جدوى ونفعا، من المهم أن يتم بلورة مشروع مصري- عربي، يملك رؤية واضحة ومحددة، للتعامل مع الأزمات المحتدمة، وفقا لأولوية تراعى طبيعة كل أزمة، والحساسيات التقليدية الحاكمة لها، واختلاف وجهات النظر داخل الفريق الواحد، لقطع الطريق على المشروعات الأخرى المعلنة والخفية، من جانب تركيا وإيران وإسرائيل، والتى استفادت من الغياب المصري، ونجحت فى سد الفراغ الذى نجم عنه، وأصبحت لها يد طولى فى كثير من الأزمات، وتستطيع أن تؤثر بقوة فى اتجاهاتها، بشكل جعل معظمها عصيا عن الحل، بدون إرادتها. من جهة ثانية، تبدو سياسة المشى على الأشواك، التى أشرت إليها فى مقالى السابق، مفهومة نسبيا، لكن لن تمكن مصر من القيام بالواجبات الإقليمية المطلوبة، أو تؤكد دورها كفاعل محورى فى عدد من الأزمات العربية، قبل أن تتخلى عن الخجل السياسي، وتخفف من إشارات جس النبض، وتبعث برسائل مباشرة فى جميع الأزمات، لأنها متداخلة بصورة كبيرة، وعلينا تقديم طرح معلن، حيث يتم تفسير الحذر على أنه ارتباك أو غياب رؤية، ما يعرض البلاد لمزيد من المضايقات، فقد حققت مصر نجاحات خلال الفترة الماضية، خاصة على صعيد السياسة الخارجية، عندما امتلكت زمام المبادرة فى قضايا كثيرة، للدرجة التى أرهقت بعض الخصوم، وتفرغوا لملاحقة رد الفعل تجاه التحركات المصرية. لمزيد من مقالات محمد ابو الفضل