قديماً قال الفيلسوف اليونانى هرقليطس «الأشياء فى تغير متصل». وكان دليله على صحة قوله: أنك لا تنزل النهر الواحد مرتين وأن مياهاً جديدة تجرى من حولك أبداً. أما دليلنا المعاصر على صحة قوله فهو هذا التغير السريع الذى أصاب كوكب الأرض فى هذا القرن. وقد فطن «معهد كارلشروه للتكنولوجيا» لهذا التغير السريع فأجرى حوارات أطلق عليها «حوارات كارلشروه». وكارلشروه مدينة ألمانية يقال عنها إنها مدينة العلم والبحث والتكنولوجيا المعقدة، وإنها مهد الحركة الألمانية الديمقراطية ومؤسسة لأول برلمان فى عام 1882، وإنها «بيت العدالة» لأن بها المحكمة الدستورية الفيدرالية والمحكمة الفيدرالية للعدالة. أما الحوارات فبدأت منذ عام 1997 وتنعقد سنوياً، والغاية منها البحث عن تناولات مبدعة لقضايا العصر المتناقضة . وتدار هذه الحوارات تحت شعار «أوروبا التى تخصنى وأوروبا التى تخصك». ومغزى هذا الشعار أن أوروبا لم تعد تقف عند حد رؤية ذاتها بذاتها بل امتدت إلى رؤية ذاتها بذات الآخر. والآخر هنا هو غير الأوروبى الذى يحيا خارج أوروبا ويكون المطلوب منه الجواب عن هذا السؤال: ماذا تريد الكوكبية من أوروبا من حيث هى قارة تضم أوروبيين من أصل أوروبى ومهاجرين من أصول غير أوروبية ؟ وقيل عن هذا السؤال إنه ينطوى على معضلات ثلاث: المعضلة الأولى كامنة فى أن أغلب المهاجرين يلجأون إلى أوروبا لأنهم يواجهون اضطهاداً فى بلادهم وآخرين تربوا فى أوروبا ومع ذلك وجدوا أنفسهم مهددين بالقتل من المهاجرين الأصوليين الذين يتشبثون بثقافتهم المتناقضة مع حقوق الانسان. المعضلة الثانية تفيد بأن المهاجر مع عدم تكيفه مع القيم الأوروبية يقيم مجتمعاً موازياً ومعزولاً، وهو أمر يمتنع معه تحقيق التكامل الاجتماعى الذى هو أساسى لصحة المجتمع . أما المعضلة الثالثة والأخيرة فتختص بعادات التعصب عند الطرفين الأوروبى وغير الأوروبى. وتأسيساً على هذه المعضلات الثلاث قرر الاتحاد الأوروبى فى عام 2007 أن يكون ذلك العام هو العام الأوروبى للفرص المتكافئة ، ومن بينها المساواة بين المرأة والرجل، وحرية اختيار الشريك، ومقاومة النزعة العنصرية. وفى ذلك العام 2007 دعيت الى المشاركة فى «حوارات كارلشروه» وكانت الغاية من الدعوة بيان ما تقوم به أوروبا مع كشف مكامن الفشل وما ينبغى أن تقوم به بعد ذلك. وكل ذلك فى إطار تحديد المسئولية الكبرى لأوروبا إذا أرادت أن تكون لاعباً كوكبياً. وكان عنوان بحثى «أوروبا برؤية مصرية فى هذا القرن ودورها كلاعب كوكبى». وموجز بحثى أنه إذا أرادت أوروبا أن تؤدى دوراً كوكبياً فعليها أن تتفادى تحول دولها إلى دول مهاجرة بمعنى أن تصبح محكومة بثقافة المهاجرين وهى ثقافة خالية من عصرين: الاصلاح الدينى والتنوير اللذين مرت بهما أوروبا. ويقصد بعصر الاصلاح الدينى الدعوة إلى إعمال العقل فى النص الدينى ومن ثم تمتنع السلطة الدينية عن تدمير العقل الناقد الذى يقف ضد وهم امتلاك الحقيقة المطلقة. أما عصر التنوير فيقصد به الدعوة إلى التحرر من كل سلطان ما عدا سلطان العقل، ومن ثم يصبح الايمان أيا كانت سمته الدينية حالة فردية ليس فى إمكانها أن تتحول إلى حالة سياسية تلزم بها نظام الحكم، ومن ثم تهز جذوره، وتزعم وهى تقوم بإحداث هذه الهزة أنها تستند إلى حقوق الانسان مع أن هذه الحقوق هى حقوق نسبية ولا ترقى إلى أن تكون حقوقاً مطلقة، أى أنها صالحة للتعديل والتغيير إذا ساء فهمها فى التطبيق على نحو ما تقوم به الأصوليات الدينية. وتأسيساً على ذلك فإنه لا يحق لأى انسان أن يفرض ايمانه على الآخر لأنه بذلك يسلب الآخر من ذلك الحق. والسؤال إذن: كيف تبث أوروبا روح عصر الإصلاح الدينى وعصر التنوير إلى المهاجرين لديها، بل كيف تبث أوروبا روح هذين العصرين فى الدول التى يأتى منها هؤلاء؟ ومغزى هذا السؤال أن على أوروبا أن تقوم بدورين داخلياً وخارجياً إذا أرادت أن يكون لها دور كوكبى. والسؤال إذن: كيف يكون ذلك كذلك؟ إذا كان العرف الشائع قد جرى على نحو يرى فيه الأوروبيون أنفسهم برؤية أوروبية تعبيراً عن المركزية الأوروبية فإن شعار المؤتمر يعاكس ذلك العرف الشائع بسبب بزوغ الكوكبية ومن ثم تتوارى المركزية، وتنشأ رؤية مستقبلية مبدعة، ويكون إبداعها محكوماً ببناء جسر بين الطرفين الأوروبى وغير الأوروبى، ويكون هذا الجسر رمزاً على فكر ابن رشد بحكم أنه هو الذى أحدث تغييراً جذرياً فى الفكر الأوروبى فى عصرى الاصلاح الدينى والتنوير بفضل تيار الرشدية اللاتينية، فى حين أنه لم يحدث أى تأثير فى العالم الاسلامى إذ كُفر وأُحرقت مؤلفاته، ومن ثم يلزم استدعاؤه كرؤية مستقبلية وليس كرؤية ماضوية، لأنه نُسف وكأنه لم يكن. ولا أدل على ذلك من قول المستشرق الفرنسى هنرى كوربان فى كتابه المعنون «تاريخ الفلسفة الإسلامية» بأن ابن رشد هامشى فى الحضارة الاسلامية. ومن هنا فإن استدعاءه لن يكون من ماض توارى إنما يكون توليداً من مستقبل قادم من أجل تأسيس رشدية عربية تدخل فى علاقة عضوية مع الرشدية اللاتينية، ومن ثم تكون أوروبا، فى هذه الحالة، مهمازاً لحث العالم الاسلامى على أن يكون ابن رشد بديلاً عن ابن تيمية المتحكم فى الوهابية وفى الاخوان المسلمين وفيما ينشأ عنهما من فروع على هيئة ميليشيات ذابحة للبشر وشعارها «الانسان لأخيه الإنسان ذئب».- وإذا حدثت هذه العلاقة العضوية فإن أوروبا، فى هذه الحالة، تخص الأوروبى وتخص غير الأوروبى ويكون العالم الاسلامى فى مقدمة غير الأوروبى. لمزيد من مقالات مراد وهبة