وصف الرئيس عبدالفتاح السيسى الجهاز الإدارى «بالترهل»، وهو تعبير صحيح، يستخدمه الساسة، والباحثون، والخبراء فى الإدارة العامة منذ فترة طويلة. فهو جهاز قائم، لكنه بدين، مفرط فى السمنة، يهرول ببطء، ملابسه تبدو غير ملائمة له، وحجم إنجازه محدود مقارنة بضخامة بنيانه، يعوض ترهله بالاستئساد على المواطن. هذه الحالة تراكمية، ليست وليدة الأمس، لكنها ممتدة لعقود حتى وصل إلى ما عليه من ترهل. وقد سبق الرئيس الحالى كل رؤساء مصر السابقين بانتقادات مماثلة للجهاز الإداري، رغم أنه نما، وتمدد، وتضخم فى عهودهم جميعا، بما فى ذلك عهد الرئيس مبارك الذى طبقت فيه سياسات الإصلاح الاقتصادى والخصخصة. وزاد الجهاز الإدارى عددا عقب ثورة 25 يناير نتيجة الاتجاه إلى تهدئة الاحتجاجات الاجتماعية بمزيد من التعيينات فى الجهاز الإداري، لم يكن بالطبع بحاجة إليها، زادته تكدسا، وترهلا، وخلقت اعباء إضافية على ميزانية الدولة. الجهاز الإدارى يؤرق كل الرؤساء فى كل العصور، من كل الاتجاهات والمشارب، فهو عقبة فى تطبيق اشتراكية عبد الناصر، ومعوق لانفتاح السادات، وعبء على الإصلاح الاقتصادى فى عهد مبارك، وحاجز أمام محاولات اختطافه فى مرحلة ما بعد ثورة يناير. بالتأكيد هو عامل أساسى فى الحفاظ على المجتمع دون هزات كبرى، لكنه أيضا معوق أساسى أمام انطلاقه فى مجالات التنمية. جهود إصلاح الجهاز الإدارى ليست جديدة، وتكاد تكون قائمة فى كل الحقب التاريخية منذ ما قبل ثورة 1952م، وأخذت هذه الجهود أحيانا مسميات راديكالية مثل «الثورة الإدارية» ورغم ذلك أثبتت بدرجات متفاوتة- محدوديتها، ليس هذا فحسب، بل استطاع الجهاز الإدارى أن يطور ذاتية خاصة به، وشبكة مصالح تحيط به، وصار وسيطا فعليا بين المواطن والسلطة، يحمل بين طياته كل أمراض هذه العلاقة: المركزية، الاستبداد، الفساد، الروتين، التعالي، التحايل، وانتاج صور تكرارية مشوهة من العلاقة بين «السيد والتابع» فى كل المؤسسات، وعلى كل المستويات. إذا نظرنا فى خطط وبرامج لتطوير الجهاز الإدارى فسنجد أنها بالمئات، تتراكم على الأرفف فى صورة رسائل جامعية، وكتب، وتقارير، وخطط وبرامج على أرض الواقع، أدت فى بعض الحالات الى نتائج، وفى كثير من الحالات لم تغير البيئة الإدارية وظلت تدور حول مفاهيم اساسية تتعلق بتخفيض حجم الجهاز الإداري، الخصخصة، التدريب، الميكنة، تقليص الخطوات الإدارية، اللا مركزية، التفويض، الشباك الواحد، التصدى للروتين، تفعيل المساءلة والشفافية، ورفع كفاءة التخطيط والمتابعة. بالطبع لا أحد ينكر أهمية هذه الاتجاهات فى إصلاح الجهاز الإداري، وما يرتبط بها من تشريعات تقضى على الروتين والرتابة، وتفرض الشفافية والمساءلة، ورقابة جادة على عمل الجهاز الإداري، ولكن الأهم فى رأيى هو وجود «مديرين» شباب أكفاء، يستطيعون تخطيط برامج، ووضع ميزانيات، وتحفيز الكادر الإداري، والابتكار فى التنفيذ، واستيعاب المشكلات، وطرح حلول سريعة لها، وتحقيق الانجازات على أرض الواقع، وقياس الأثر والعائد منها. هذا ما فعلته الهند مبكرا، فى أعقاب استقلالها عام 1947م، عندما انشأت فى الخمسينيات من القرن العشرين معهد دراسات الإدارة لتوفير مديرين مناسبين للمؤسسات العامة فى عهد رئيس الوزراء جواهر آل نهرو، ثم ما لبث أن كثرت فروع المعهد، وتوسعت لتشمل كل أرجاء الهند. ويجمع معاهد الإدارة لجنة عليا، تضع البرامج، وتتابع تنفيذها، وتطور من أدائها، وتتمتع بالإدارة الذاتية، وصارت واحدة من أهم المعاهد على مستوى العالم فى تخريج قيادات إدارية على مستوى رفيع للعمل فى المجالين الحكومى والخاص. نفس الأمر ينطبق على خبرة حديثة فى اسبانيا من خلال معهد إدارة الأعمال فى مدريد، الذى تأسس عام 2009م، وفى غضون سنوات قليلة صار أهم معهد لدراسات إدارة الأعمال فى أوروبا، يفد إليه طلاب من نحو تسعين دولة، للدراسات العليا والبرامج الخاصة فى مجالات عديدة منها الإدارة التنفيذية. ويٌعد خريجو هذا المعهد من الكفاءات الإدارية المهمة التى يٌستعان بها فى الحكومة وعالم الأعمال على السواء. صفوة القول أن النظام التعليمى فى مصر يفرز عقليات متناسخة تصلح للعمل موظفين، ليسوا على مستوى الكفاءة والتنافسية مع أقرانهم من دول أخرى توصف أيضا بالنامية، فى مجتمعنا تتشكل ثقافة الموظفين عبر حصيلة تعليمية يغيب عنها الابتكار، والعلاقات التنظيمية السائدة فى المؤسسات البيروقراطية، التى تتقيد باللوائح، وترث الغث والسمين منها، وتتعلم أساليب العمل التى لا تخلو من تعقيد وتحايل، ويتحول الموظفون فى غضون سنوات إلى تروس فى آلة، يحكمها الحرص أكثر من العمل، التمسك بالشكل على حساب المضمون، وتحقيق المنافع الخاصة مقدم على المنافع العامة. تحتاج مصر إلى معاهد إدارة متخصصة ليست فى الدراسات النظرية فى الإدارة، ولكن فى تكوين «المدير» الناجح، علما، وثقافة، وتدريبا، بحيث يتوافر الكادر الإدارى فى مواقع الإدارة الوسيطة والعليا القادر على اتخاذ القرار، جنبا إلى جنب مع إصلاح تشريعى وتنظيمى داخل المؤسسات الإدارية، بما يسمح بتشكيل ثقافة جديدة للعمل تعيد للجهاز الإدارى بعضا من نضارته المفقودة، وتشد بنيانه بعيدا عن الترهل الذى يعرقل حركته. لمزيد من مقالات سامح فوزي