يبدو أن مقدم البرنامج أراد أن يتأكد من أنه لم يخطىء الفهم.. لذلك لم يترك ضيفه يكمل كلامه وقاطعه قائلا: «هل حقا كنت تفعل ذلك؟».. فأجاب الضيف مؤكدا: «نعم كنت أمسح البلاط».. ثم تابع حديثه. نتهي البرنامج.. تاركا للمشاهد المتأمل إجابات مختصرة عن أسئلة عديدة من أهمها: «ما هي الأجواء التي تساعد علي ظهور عالم»؟ .. فضيف البرنامج الذي مسح البلاط هو العالم الفذ الدكتور فاروق الباز الذي استطاع بروعة حديثا ودفء شخصيته أن يجبرنا علي الانصات والتأمل في تلك الأمسية التي ظهر فيها علي شاشة التليفزيون وقال خلالها كلاما بديعا عن والدته التي لعبت دورا مهما ومؤثرا في حياته.. فقد علمته هو وإخوته الثمانية قيمة العمل ومتعة المشاركة.. دون أن تقول كلمات ضخمة.. ودون أن تلقي بنصائح رنانة.. وذلك حين كانت تطلب منهم أن يساعدوها في أعمال المنزل.. لا فرق بين بنت وولد.. الكل يعمل ويساعد في تنظيف البيت وطهي الطعام وترتيب الأسرة واعداد المائدة وغسل الأطباق. أيضا علمته فضيلة التواضع.. دون أن تدري أنها تغرس فيه أحد أهم صفات العلماء.. فقد أظهرت دراسات أجريت علي الأفراد النابغين.. أن الذين حققوا انجازات عظيمة ومميزة كانوا يتسمون الي جانب الذكاء بالتواضع والمثابرة وبذل الجهد والثقة بالنفس وحسن الطبع. الي جوار الأم.. كان هناك أب مستنير.. عرف كيف يزرع حب المعرفة في نفوس أبنائه.. كان يجمعهم قبل العشاء.. ليحكي لهم قصة من قصص التاريخ.. او يقرأ لهم صفحات من كتاب يأتي به من مكتبته.. ويحرص قبل أن يفتحه علي تنظيف غلافه من أي أتربة عالقة به.. ليمنحهم احساسا بأنه يمسك شيئا قيما وثمينا..الصفحات التي يقرؤها.. والحكايات التي يقصها.. تكون موضوع الحوار الذي يدور بينهم وهم جالسون حول مائدة العشاء. هنا.. نحن امام مشهد لم نعد نراه.. فقد اختفي من البيوت المصرية مشهد مائدة العشاء.. وحل محله مشهد صامت لأبناء يتناولون طعامهم وهم يتابعون برامج التليفزيون.. ولا أحد يدري هل صدفة أن السير الذاتية لكثير من النابغين تضم حكايات عن مائدة العشاء.. كسيرة الكاتب الأمريكي ليو بوسكاجليا الذي تصدرت بعض مؤلفاته عن العلاقات الانسانية قائمة أكثر الكتب مبيعا في الغرب.. فقد كانت عبارة: «ماذا تعلمت اليوم يا ليو؟» التي كان أبوه يلقيها في وجهه كل يوم وهما يجلسان حول مائدة العشاء هي العبارة السحرية التي قفزت به الي عالم التفوق.. فقد كان عليه قبل أن يهل المساء أن يهرع باحثا عن أي كتاب او جريدة ليقرأ أي معلومة يستطيع بها الاجابة عن سؤال مائدة العشاء الاجباري. نعود الي عالمنا العبقري دكتور فاروق الباز الذي آثار الشجون وهو يتكلم عن أيام الدراسة.. تلك التي كان فيها المدرس في منزلة الأب.. يحظي بكل التقدير والاحترام من تلاميذه الذين كانوا يكفون عن الكلام والضحك عندما يرونه يسير علي الرصيف المقابل.. مشهد من المشاهد التي اختفت من المجتمع المصري بعد أن بات التلاميذ يتطاولون علي المدرسين.. والمدرسون يقتلون التلاميذ ضربا. أيضا أثار دكتور فاروق الباز الشجون وهو يتكلم عن عمله في الصعيد.. وكيف أن صاحب البيت الذي أقام فيه مع أربعة من زملائه بعد أن تم تعيينهم معيدين في جامعة أسيوط.. قد قرر من تلقاء نفسه أن يكون ايجار البيت جنيها واحدا في الشهر بدلا من جنيهين.. وهو الإيجار السائد في ذلك الوقت.. قائلا لهم: «أنتو جايين تعلموا أولادنا .. لازم نشيلكو فوق راسنا» انتهي البرنامج.. لنتأكد من أننا اذا أردنا أن يكون لدينا علماء مثل دكتور فاروق الباز فإننا نحتاج الي أمهات مثل أمه.. وآباء مثل أبيه.. ومدرسين مثل مدرسيه.. وبشر مثل الصعيدي صاحب البيت الذي أدرك قيمة العلم والعلماء.. وقبل كل ذلك نحتاج الي مناهج دراسية متطورة تلائم ناس يعيشون في القرن الحادي والعشرين. لمزيد من مقالات عايدة رزق