التاريخ تصنعه الأحداث والأفكار يصنعها البشر، التى بدورها تكتب التاريخ وتصوغه بأفكارها وتوجهه بانتاجها العلمى والبحثي.. وفى الذكرى الثلاثين على إصدار التقرير الإستراتيجى العربي، يحتفل مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية بالبشر الذين صكوا الأفكار فى أول مركز دراسات سياسية فى مصر والمنطقة العربية. للمركز أدوار وطنية ملموسة على مدار تاريخه عبر أجيال متعاقبة توارثت خبراتها وحافظت على تقاليده وأعرافه الموروثة المكتوب منها وغير المكتوب. فقد ساهمت هذه الأجيال فى توجيه صانع القرار المصرى ومتخذه، ودعمته فى الرخاء والشدة بالمعلومات والتقارير والتقديرات فى اختبارات وطنية بدت قلقة وضاغطة. أدى المركز فيها أدوارا وظيفية كانت ملموسة فى حرب أكتوبر 1973، حيث مثل ما اعتبر وقتذاك «النقطة 11» والتى كانت تمد غرفة عمليات القوات المسلحة بتقرير كل ساعة وعلى مدار الساعة، ولم تنقطع أدواره أو أفكار باحثيه ومساهماتهم العامة قبل مهامهم البحثية والأكاديمية، والتى تجلت فى الكثير من المواقف التاريخية بعد ذلك كحرب تحرير الكويت عام 1991، وما تلاها من أحداث وتحولات إقليمية ودولية. فالمركز أدرك مبكرا التحدى الذى من أجله تأسس ليسعى عبر باحثيه ومساهمات خبرائه العلمية فى التعاطى بجدية مع التحديات والاختبارات التى تواجهها الدولة انطلاقا من مسؤوليات وطنية ومهاما بحثية وأكاديمية تأخذ الوطن والمواطن كمحدد رئيسى فى العمل والاجتهاد. قد يرتبط ذلك بطبيعة نشأة مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية عام 1968، كمركز علمى مستقل بغرض دراسة المجتمع الإسرائيلى والصهيونية والقضية الفلسطينية، ليتطور بعد ذلك عبر الزمن سواء من تنظيمه أو مهامه أو أنشطته العلمية والبحثية، بحيث يهتم بدراسة الموضوعات السياسية والإستراتيجية بصورة متكاملة، مع التركيز على قضايا التطور فى النظام الدولي، وأنماط التفاعل بين الدول العربية وبين النظام العالمى الذى تعيش فى ظله أو بينها وبين الإطار الإقليمى المحيط أو بين وحدات هذا الإقليم المختلفة. وقد حافظ المركز رغم تعاقب السنوات وتغير الأنظمة وتبدل مسئوليه ومديريه على خط واضح منذ نشأته يتمثل فى العمل باستقلالية كاملة فى إدارة نشاطه العلمي، وحرص شديد فى بحوثه على تبنى المنهج النقدي، الذى لا يقنع بمحض سرد المعلومات أو تحليلها، وإنما يهتم كذلك بأن يبرز رأيه وتقديراته فى المشكلات المطروحة، ويتيح لباحثيه وخبرائه حرية كبيرة فى التعبير عن أرائهم واجتهاداتهم فى حدود قواعد الموضوعية وتقاليد البحث العلمي. كان ذلك المحرك الرئيسى لأن يحرص العديد من قادة العالم ومسئوليه فضلا عن الأكاديميين والخبراء والباحثين الدوليين على زيارة المركز والجلوس إلى جانب أعضائه لطرح أفكارهم ونمط توجهاتهم ورؤيتهم وتفاعلاتهم مع مصر والإقليم والعالم. كما أنه سلوك ارتبط بطبيعة موقع المركز ضمن أفضل 50 مركز تفكير (Think Tank) على مستوى العالم، واحتلاله لسنوات متعاقبة المرتبة الأولى ضمن أفضل عشرة مراكز سياسية واستراتيجية على مستوى منطقة الشرق الأوسط. تعلق بذلك أيضا مساهمات باحثى المركز فى المؤتمرات والندوات وورش العمل الدولية وكذلك فى المجال العام عبر وسائل الإعلام المختلفة المصرية والعربية والدولية، فقد تحول المركز إلى مؤسسة عريقة تتوارث العلم والأفكار وطرق التحليل وأدواته وتورثه عبر أجيال متعاقبة، تعلمت على يد أساتذة ومفكرين كبار أمثال الاساتذة: محمد حسنين هيكل والسيد يسين ود.على الدين هلال ود. سامى منصور ود.عبدالمنعم سعيد ونبيل عبد الفتاح ود.محمد السيد سعيد وغيرهم الكثير من خبراء المركز وباحثيه. قد تنشأ أو تتأسس مراكز أبحاث ودراسات عديدة ولكنها وباعتراف الكثير منها تعتمد على ما أرساه المركز من تقاليد علمية وما صاغه عبر تاريخه من إصدارات مختلفة، تصدر بانتظام، وتعنى بالتعاطى والاشتباك العلمى مع مختلف التطورات السياسية والاقتصادية والأمنية فى الوطن والإقليم والعالم. مهام المركز وأدواره لم ولن تنقطع وهذه السطور ليست تأريخاً لمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية بقدر ما تمثل محاولة للمساهمة فى الاحتفال بالذكرى الثلاثين لصدور العدد الأول من «التقرير الاستراتيجى العربي» الرائد فى مجاله، بهدف أساسى هو التأكيد على حاجة مصر إلى عشرات من مثل هذا المركز العلمي، فالسياسات العامة والبدائل السياسية الكبرى فى الغالبية الساحقة من دول العالم المتقدمة تساهم هذه النوعية من المراكز فى صياغتها واقتراحها على المجتمع والنخب والدولة، والمركز على العهد محافظ مع الوطن والمواطنين والدولة بمؤسساتها المختلفة بإجماع أجياله المتعاقبة.. أنه الوعد والعهد. مدير برنامج تركيا والمشرق العربى بالمركز.