المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح امرأة» كتبت سيمون دى بوفوار هذه العبارة الحاسمة، لتؤكد أن فعلا جماعيا خارجيا هو الذى يصيغ هوية المرأة ، باكثر مما تفعله الطبيعة والبيولوجيا، هذه المرأة التى نألفها الان هى كائن تم صناعته تاريخيا ليتوافق مع تصور جمعى لحقيقتها ،لدى نوال السعداوى عبارة دالة فى كتابها «الأنثى هى الأصل» تقول فيها «المرأة التى تسمى بالمرأة الطبيعية، هى المرأة التى نجحت فى قتل وجودها الحقيقى» اى تلك التى امتثلت، المرأة تقيم إذا خارج ذاتها بدرجات متفاوتة حسب موقعها وزمانها، ولذلك عاشت ولازالت تعيش تحت هذا الثقل المجحف، مزدوج القهر ورفضه ، لكن الدوائر لا تخلو من ثغرات ، ومن هذه الثغرات تمكنت كائنات رائعة من الإفلات دائما . لنا فى مصر رصيد طيب من هذه الكائنات، فقدفوجئت عند انتقالى للحياة بإيطاليا أن حجم مشاركة المرأة فى الحركة التشكيلية المصرية الحديثة يفوق حضور نظيرتها الإيطالية فى مجال يسوده الرجال تماما هناك، فهمت وقتها أن التكوين الهش هو الذى يسمح بالارتجال سواء إيجابا أو سلبا كما هو الحال فى بعض الدول الأسيوية حيث تصل المرأة الى رئاسة الجمهورية ولكن وفقا لمعادلة ذكورية وقبلية وطبقية متخلفة للغاية، رحلة الحداثة فى مصر لم تحرم من الأدوار الكبيرة للنساء: من هدى شعراوى ونبوية موسى وملك حفنى ناصف. وصولا الى فتيات ونساء التحرير.ومع التجربة الناصرية ، استنهضت شرائح اجتماعية مهمشة ،وتمت تعبئة الطاقات بخطاب من أعلى ، يتحدث عن بناء واقع جديد ، ومشروع لتنمية وتحرير الوطن بأكمله ، ويرى ان المساواة مطلب مشروع للمرأة ومشاركتها ضرورة ،داخل هذا السياق برزت تجربةنوال السعداوي، فى تناغم مع روح تلك الدولة الفتية الجديدة ، دون التخلى عن صراع الهوية كامرأة، نجاحات السعداوى لم تستند الى تلك الخلطة المعتمدة من الفرويدية والماركسية والخطاب النسوى ، وانما استندت فى الأساس لممارساتها العملية فى المجال وعملها المباشر مع المرأة كطبيبة هذا هو الكنز الحقيقى الذى ورطها فى لحم الواقع فلم تعد مجرد باحثة أو ناشطة أو مفكرة ،وانما ظاهرة خاصة،ومكنتها تلك المادة المحلية الثرية من الخروج الى الدوائر العالمية الأوسع، التى كانت حريصة على التفاعل معها،اتذكر عندما كانت السعداوى ضيفتنا فى ميلانو ، اتصالاتها المكثفة مع انجيلا ديفيز ورائدة الفضاء فالنتينا ونيلدا يوتى رئيسة البرلمان الإيطالى، حفرت نوال بهذا موقعا لتجربتها لا يمكن اغفاله فى رحلة تحرر المرأة بمعناهاالكبير. لم أتحمس كثيرا لكتابتها الأدبية، واتذكر أننى سالتها آنذاك لم لا تكتفين بالبحث والكتابة فى مجالك قالت: انا اديبة وابنتى أديبة وزوجى اديب وابنى مخرج كلنا مبدعون، تعجبت من هذه العائلة المبدعة بأكملها، وسألتها لم لا يوجدبالعائلة مجرد شخص واحد عادى، فسألتنى عن معنى العادي، ولم لا يكون العادى هو أن نعبر وأن نبدع، وهكذا هى ،فيض طاقة وجدل، لا تقبل بالمسلمات ولديها دائما رد فعل متحفز، كنبات وحشي، و يكفيها أن «فردوس» وهو العنوان الذى اختاره الإيطاليون لكتاب «امرأة عند نقطة الصفر» أصبح كتابا مرجعيا لجيل بأكمله من الإيطاليات، فالسعداوى تملك تلك القدرة على الخروج من الخطاب الضيق، والتوجه الى مشاعر وأفكار ولغة قطاعات واسعة من الشباب. د.نوال اختارت،الا تكون توفيقية والاتتصالح مع السائد،والا تطرح مناطق للمواربة مع حرفية الشريعة التى تشكل المصدر التشريعى لأشكال التمييز،اختارت المواجهةالمباشرة،ولم تكتف بالمساواة كهدف اخير ،لقد طرحت موضوع الهوية بحيوية مدهشة، واقتحمت التابوهات كانت كتبها «المرأة والجنس» و«الرجل والجنس» تدخل بنا علميا الى ما لا نريد أن نواجهه . نجحت السعداوى رغم نخبوية الخطاب النسوي، فى الوصول الى جمهور واسع ،وفى توجيه ضربات قوية الى المركزية الذكورية، والى مرجعيتها من الفتاوى والإعلام الدعوى. وسعت لهز الأسس المركزية للمجتمع الذكورى، كالمفاهيم الأخلاقية للشرف، و اختارت أن تستفز بخطابها نرجسية ذكورية، وإدعاءات تفوق كامنة خلف قشرة التحضر ، و تنجح دائما فى إخراج ذلك البعد المخفى الى العلن . كنا فى ديفا مارينا، على ساحل الريفيرا الإيطالية ، كان ذلك فى الثمانينيات ، وكنا فى ضيافة مارسيل وجانيت شيريزى ، ولدى ذكرى بصرية لذلك الشاطيء ولذلك المايوه الستينى الذى كانت نوال السعداوى ترتديه وربما سوف تتذكره هى أيضا إذا ما قرأت هذه الكلمات كان المايوه رماديا وبه خطوط بيضاء، ودعتنى للجرى على الشاطيء ، فقلت لها اننى لن أجري، فردت بما معناه أننى ربما اكون فى نهاية المطاف رجلا متخلفا يخجل من جسده ويتخيل أن العالم كله يراقبه، ورددت بأنه يكفينى أن اكون مجرد رجل كسول لا يريد الجرى على الشاطيء، تركتنى وركضت وحدها، كان مشهدها رائعا، وكنت اتابعها وهى تقفز وتنزل الى البحر بصخب وبهجة كطفلة عملاقة. من يومين قرأت خبرا كاذبا عن موت الدكتورة نوال ، التى اتشرف بأننى قد تعرفت عليها من قريب ،واتعجب من كل هذا الاستخفاف فى إعلانات الموت ،فلم هذا الايلام المجانى ، وهل يمكن التلاعب بمشاعر الأهل والمحبين الى هذا الحد. ولكنها اعتادت هذا العنت منذ المطالبة باسقاط الجنسية عنها ، ودعوى الحسبة لتفريقها من زوجها، الى سجنها، واتهامها بإزدراء الأديان، نهاية باستباحة دمها ووضعها على قوائم الموت. د.نوال السعداوي:ذات كبيرة ،كاريزما خالصة، وروح شجاعة متوهجة،جسد فارع وواثق، عيون آسيوية للغاية، وفم أفريقى وشعر ابيض متماوج وقبل كل شىء تلك الابتسامة الرائعة التى ماز الت تشرق رغم كل شىء. لمزيد من مقالات عادل السيوى