اختصروه في لقب «شاعر المرأة» حتى يحاصروه في خانة وحيدة، يريدون مصادرة «خبز وحشيش وقمر» و»هوامش على دفتر النكسة» و»متى يعلنون وفاة العرب؟» و»المهرولون» لكن ذاكرة التاريخ تحتفظ له بصفحة خاصة، كأحد أهم الشعراء، وسأظل أحتفظ باسمه، ثاني اثنين كتبا نثرا، لا يقل بهاء وجمالا عن شعرهما، أما الثاني فهو محمود درويش، الذي تأثر به في أول دواوينه «عصافير بلا أجنحة». كان نزار قباني يعترف بأن نثره أهم من شعره، وكما قال: «لأنني مع نثري عصفور طائر، ليس هناك حدود لأجنحتي، ولا للفضاءات التي أكبر فيها» لذلك كانت قصائده تضرب في مناطق متطرفة، لم يكن ليقبل باللون الرمادي، ألم يغن له كاظم الساهر – وبالمناسبة هو أسوأ من غنى قصائد نزار قباني – «لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار»؟ كانت صرخته بحجم الطعنة، فالشاعر الذي كتب «متى يعلنون وفاة العرب؟» لم يعش ليسجل تلك اللحظة القاسية في تاريخ أمته، وفي تاريخ دمشق، آخر الكلام وآخر الحنين، فبعد أكثر من 15 سنة عاشها في صقيع أوروبا، أفلت بوصيته الأخيرة، فدفن في دمشق، التي قال عنها إنها «الرحم الذي علمني الشعر، الذي علمني الإبداع، والذي علمني أبجدية الياسمين» قامت «الذقون المحشوة بغبار التاريخ» بالتشويش على جنازته آنذاك، لكن ذاك أرحم من أن تحول «جبهة النصرة» دون وصوله إلى مرقده الأخير. كان يقول في «هوامش على دفتر النكسة»: «أنعي لكم يا أصدقائي اللغة القديمة/ والكتب القديمة/ أنعي لكم.. كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة/ ومفردات العهر والهجاء والشتيمة/ أنعي لكم../ أنعي لكم../ نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة» لم يكن جريئا فحسب في مضامينه، لكنه تعامل مع اللغة بجرأة غير مسبوقة، لم ترتعش يده وهو يجرب، وهو يضع النحو في خانة بعيدة عن قصيدته، أو يستخدم حروف الجر على نحو غير معهود، أو يصنع تراكيبه اللغوية الجديدة، كان دائما ينظر في مختلف الزوايا بغضب. فعلها وهو يكتب عام 1954 قصيدته «خبز وحشيش وقمر» فاعترض الرجال الجوف، وارتعدت فرائس البرلمانيين، فطالبوا بطرده من السلك الدبلوماسي، إنها «الذقون المحشوة بغبار التاريخ» كما وصفها، وكما قال: «خبز وحشيش وقمر كانت أول مواجهة بالسلاح الأبيض بيني وبين الخرافة وبين التاريخيين». غيرت الذقون المحشوة بغبار التاريخ وجهها، بعد نكسة 1967، حين كتب «هوامش على دفتر النكسة» منعوا إذاعة كل ما يتعلق به، منعوه من دخول مصر، لكن مصر كان فيها جمال عبد الناصر، الذي رد على رسالة من الشاعر، تشكو إليه مصادرة ديوانه: « لم أقرأ نزار قباني إلا في النسخة التي أرسلها إلي، وأنا لا أجد أي وجه من وجوه الاعتراض عليها» ومن ثم أمر بإلغاء كل التدابير التي «قد تكون اتخذت خطأ بحق الشاعر ومؤلفاته». تعاود «الذقون المحشوة بغبار التاريخ» ضربتها من جديد، حين تفجر السفارة العراقية في بيروت، وتترك للشاعر حرية تجميع أشلاء زوجته من تحت الأنقاض، في قصيدة غاضبة، في هذه المرة كان «نوري المالكي» – رئيس الوزراء العراقي السابق – أحد المتورطين في تلك العملية الإرهابية، وبعد خروجه من الوزارة رفعت أسرة بلقيس الراوي دعوى قضائية ضده. بعد عقود من رحيله، لم يجد القاضي، الذي حكم في قضية إثبات نسب ابنة الممثل أحمد الفيشاوي إليه، سوى قصيدة لنزار قباني، يمهد بها لتلاوة حكمه بإثبات بنوة الطفلة الصغيرة، هل يريد الشاعر أكثر من هذا؟ لا أظن، حتى لو كتب يوما: «يا وطني الحزين/ حولتني بلحظة/ من شاعر يكتب الحب والحنين/ لشاعر يكتب بالسكين».