بعد ظهر الخميس الماضى اتصل بى دبلوماسى أجنبى صديق يعمل فى القاهرة، ويقيم بالمعادى القديمة، وما أن انتهينا من السلامات والتحيات والاطمئنان على الأحوال، حتى قال بصوت يسيطر عليه القلق الشديد ويقترب من حد الذعر: إن المياه مقطوعة عن منزله - عادى جدا بتحصل فى بلاد كتير -، وسألنى عما إذا كان انقطاعها له علاقة بأنها مسمومة، بسبب غرق صندل محمل بالفوسفات فى قنا، فقلت من أخبرك بهذا الكلام الفارغ؟ فرد: سائقى، وأن جيرانه يتداولون ويتناقلون تلك المعلومة كواقع مسلم به وغير قابل للشك. طلبت منه إمهالى بعض الوقت لاستقصاء مدى صحة ما ذكره، ومعرفة الأسباب الفعلية للانقطاع، وتأكدت من مصدر موثوق أن المشكلة سببها كسر فى ثلاث مواسير، مما استدعى قطع المياه لحين اتمام عمليات إصلاحها، واتصلت بصديقى الخائف الذى لم يقتنع فيما أظن بردى المبنى على معلومة صحيحة، لأن ماكينة الشائعات كانت أقوى وأشد تأثيرا من التفنيد والاحتكام للعقل والمنطق. فى اليوم التالى الجمعة استيقظنا على أنباء إصابة مئات المواطنين فى الشرقية بالتسمم، واتجهت أصابع الاتهام للمياه الملوثة، وتناقلت الصحف والفضائيات أن ميكروفونات المساجد حذرت الأهالى من شربها، فى مخالفة صريحة لواحد من الأدوار المجتمعية المحورية المنوط بالمسجد الاضطلاع بها، وهو تجنب اثارة الفتن والهلع بين الناس، وبينما اهتم مسئولو المحافظة والشركة القابضة لمياه الشرب بغسل يدهم تماما من الموضوع وتبرئة ساحتهم محملين المسئولية لجراكن المياه المفلترة، انطلق مروجو الشائعات يسكبون الزيت على النيران المستعرة بحديثهم عن أن مصدر التسمم صندل قنا، رغم البعد الجغرافى ، حيث يفصل بين المحافظتين عدة محافظات ، وأن الإخوان الأشرار متورطون فى تدبير المسألة بوضعهم مادة سامة فى المياه، وتم استرجاع فعل مشابه قاموا به حينما كانوا فى السلطة بالمدينة الجامعية للأزهر ضمن خطة آنذاك للإطاحة بشيخ الأزهر الدكتور الطيب، وأن لهم باعا طويلا فى التحريض وشحن النفوس. المؤلم والمؤسف فى الواقعتين وغيرهما أن الكل جاهز لتقديم المتهم قبل أن يبدأ التحقيق ونستوثق من أنه الجانى الحقيقي، فالحكم يصدر قبل أن نمحص ونتيقن، فنحن أساتذة لا يشق لنا غبار فى الشائعات وعدم توخى الدقة، والالتزام بأبسط مقاييسها ومعاييرها ، فثقافة الشائعة متغلغلة فى نخاع الشخصية المصرية، فما أسهل تعليق الأخطاء على شماعات جاهزة، وهكذا يصبح ضميرنا مستريحا. ففى حادث الشرقية لم يتجه تفكيرنا لاحتمال وجود إهمال - الداء العضال المتجذر بالمحروسة - فى صيانة محطات المياه المغذية للمنطقة المنكوبة، وأن موظفا ربما أخطأ بوضعه كميات أزيد أو أقل من المواد الكيمياوية المستخدمة لتنقية ومعالجة الماء، وأن هناك بشكل أو بآخر خللا - مازلنا نجهله حتى وقتنا هذا - قاد لحالات التسمم، وتجاهلنا البيان والوصف التفصيلى للنطاق الجغرافى الموجودة به الاصابات. فسكان الإبراهيمية اشتكوا كثيرا فى الآونة الأخيرة وبح صوتهم من سوء مياه الشرب، مما يدفعهم قسرا لبدائل أخري، وبالتأكيد فإن شكواهم ليست لمجرد الشكوي، فهم ضحايا لعهود من الإهمال والتهميش وسوء الادارة، وتدنى مستوى الخدمات العامة، وإن كانوا قد استخدموا الجراكن فلهم عذرهم وحجتهم المبررة، وقبل أن نحاسبهم وننصب لهم المشانق هل وفرنا لهم حقهم المشروع فى كوب ماء نظيف نقى قبل أن نخضعهم لآلية الحساب والاتهام؟. وهل يصح ونحن فى العقد الثانى من الألفية الثالثة أن يروى اهالينا فى الشرقية، وفى اى محافظة أخرى، ظمأهم بجراكن مياه مفلترة نتائج الدراسات العلمية خلصت إلى أن 25 % فقط من المياه صالحة للشرب ؟ وهل يعقل ويجوز استمرار حرمان معظم قرانا ونجوعنا من شبكات المياه والصرف الصحي، فكيف سيكون الفلاح منتجا ومشاركا بقوة فى جهود التقدم وهو لا ينال نصيبه العادل فى الماء لدينا 12 مليون متر مكعب من المياه الملوثة، ينتج عنها 75% من أمراض الجهاز الهضمى. نعم الدولة تجاهد لتعويض المواطن عن أعوام الحرمان، لكن العائد يعد ضعيفا وغير محسوس بالصورة الكافية من جانب المواطن الكادح الصابر, فحرمانه مما سبق من اساسيات وضروريات حوله لمواطن تعيس لا يستطيع الشعور بالسعادة، والقدرة على المشاركة الايجابية، فقد اعتاد مبادلة الاهمال بإهمال والاعراض باعراض، مكتفيا بالانتظار والترقب لرؤية ما سوف تسفر عنه المساعى للنهوض وتبديل حال البلاد والعباد، فالمعادلة يغيب عنها طرف رئيسى - المواطن -. ويجب ألا نمر مرور الكرام على احتلال مصر المرتبة ال 135 على مؤشر السعادة العالمى الذى شمل 158 دولة، الغريب ان شعوب دول مثل جيبوتى وموزمبيق والسودان وفيتنام وليسوتو وكوسوفو أكثر سعادة من المصريين!. فالسعادة قد تمثل معيارًا ومقياسًا للتقدم والرقى الاجتماعي، وعندما يتخفف المواطن من اثقال مشكلات المياه، والكهرباء، والنظافة، ورغيف الخبز، والسلع الاساسية، والأسعار، والمرتب غير المتناسب كلية مع الزيادات الفلكية فى الأسعار فإنه سيصبح طاقة جبارة مهيأة للعمل الدؤوب الشاق، حينئذ يطرأ التغيير ويتحسن الحال، اما إذا استهلكنا وقتنا وطاقتنا فى البحث عن كوب ماء صالح للشرب وتبرير غيابه فثق فى أننا سنبقى نستنزف حتى الرمق الأخير ولن نخطو خطوة واحدة للأمام. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي