حسنًا فعل مجمع اللغة العربية حين جعل من موضوع «اللغة العربية وعالم المعرفة» عنوانًا لمؤتمره هذا العام في دورته الحادية والثمانين. أما دورته الأولي فكانت في عام 1934 بعد عامين من صدور المرسوم الملكي بإنشائه. وعلي مدي هذه العقود الثمانية اتسعت مؤتمراته لموضوعات شتي، تكشف عن مسايرة المجمع روح العصر واحتياجاته، والوفاء برسالته الأساسية في العمل علي تحديث اللغة وتجديدها ودراسة لهجاتها وإنجاز معجمها التاريخي ومعاجمها اللغوية والعلمية. من هنا، كان الاهتمام بقضايا الترجمة والتعريب، واللغة في الإعلام، وفي التعليم، ولدي مؤسسات المجتمع المدني، حيث توجد جمعيات رائدة في هذا المجال وهي «جمعية لسان العرب« و«جمعية حماة اللغة العربية« و«الجمعية المصرية لتعريب العلوم». وحملت عناوين بعض مؤتمراته اهتمامًا بالمصطلح العلمي وصوْغه والعمل علي توحيده عربيًّا، والتنسيق بين المجامع اللغوية العربية. واتخذت مؤتمرات المجمع - التي يشارك فيها عدد كبير من المجمعيين العرب والمستعربين والأعضاء المراسلين والخبراء والمحررين، مئاتِ التوصيات والقرارات - التي أصبحت ملزمة بعد تعديل قانون المجمع وإقرار مجلس الشعب له بفضل تبنّي رئيسه الفقيه الدستوري الكبير الدكتور أحمد فتحي سرور دوْر المجمع ورسالته في الحياة المصرية والعربية. لكن هذه القرارات الملزمة علي مدي السنين السبع الأخيرة لم تجد الإرادة السياسية اللازمة للأخذ بها وتفعيلها وتدارك وضع اللغة العربية في التعليم - بمستوييه العام والعالي - وفي وسائل الإعلام المختلفة: الإذاعة والتليفزيون والفضائيات والصحافة التي أصبح بعض كتابها يعمدون إلي استخدام العامية من باب التظرف وخفة الظل والسباحة مع التيار المعاكس. المجمع في هذا العام يختار لمؤتمره الذي انعقد علي مدي أسبوعين موضوعًا تفرضه طبيعة هذا العصر واحتياجاته وتحدياته فيما يتصل باللغة العربية وعالم المعرفة. ولكي تكون العربية لغةً لعالم المعرفة، فلابد أن تكون أولاً لغة حياة، نتنفسها ونفكر ونعبر بها، ونحرص علي أن تفتح رئتيها لكل ما هو جديد وصحيح، وأصيل وفصيح، من متن اللغة المعاصرة، لغة العلم والمعرفة بالمعني الشامل.والناس في اشتباكهم مع الواقع اللغوي الراهن علي حاليْن: حال المتفائل بمستقبل هذه اللغة، وهو يشاهد اهتمامًا - لم يحدث من قبل - في كل مكان من الوطن العربي، بتجديد هذه اللغة وتحديثها وجعلها وافية بمطالب العصر. كما يشاهد إقبالاً - لم يحدث من قبل - علي تعلمها من غير أبنائها، الذين يدرسونها لأغراض شتي، من بينها الاهتمام بالثقافة العربية والإبداع العربي، كما يشاهد اقتحامها العديد من الجامعات الأوروبية والأمريكية، لغةً ثانية مقررة علي الطلاب، يتدافعون لدراستها في أقسام اللغة العربية وكراسيّها. كما يشاهد العديد من المستعربين، الذين جعلوا من العربية مشروع حياتهم، يُكملون بها رسالتهم في الاهتمام بلغاتهم الوطنية. ولدينا في مجمعنا الآن عدد من هؤلاء المستعربين يمثّلون إسبانيا والمجر وطاجيكستان وإنجلترا ورومانيا والصين وروسيا وإيران وتركيا واليابان وباكستان وأوزبكستان وأذربيجان وكازاخستان والسنغال وألمانيا وهولندا والولايات المتحدةالأمريكية وكندا. هذا المتفائل بمستقبل هذه اللغة، يؤكد حاجته إلي خريطة طريق فيما يتصل بعمل مجمعنا والمجامع اللغوية العربية، وإلي مدخل مستقبلي، يقوم بوضع السياسات اللغوية المطلوبة. وفي المقابل، نري حال غير المتفائل بمستقبل هذه اللغة، الرازح تحت كثير من سلبيات الواقع اللغوي، واليأس من إنتاج معرفة جديدة، تُنهضنا، وتُنهض اللغة مما يتصوره كبوةً لها، وتخلفًا عن الوفاء باحتياجات ما نتطلع إلي تحقيقه. فهو يري تراجعًا ملموسًا في مستوي إتقان اللغة العربية - بمستواها الفصيح - عند أبنائها، صغارًا وكبارًا. ويري في الوضع التعليمي سطوةً للمناهج السائدة التي تكرر النماذج التقليدية، علي أنها هي التي تُمثّل اللغة العربية، وإعراض هذه المناهج عن كل جديد يمتلئ به العصر من نصوص وإنتاج حديث وإبداع متدفق. كما يري ضعف أداء معلم اللغة، وانعدام قدرة المجتمع علي تغيير الواقع المدرسي والنهوض به من عثراته، ليس في مجال اللغة العربية وحده، وإنما في سائر جوانب العملية التعليمية بكاملها. كما يري غيرُ المتفائل تراجعًا في مجال استخدام اللغة العربية الفصيحة في مختلف مجالات الحياة اليومية، بالإضافة إلي غياب العربية الصحيحة عن مساحات واسعة من فضاءات الإعلام المسموع والمرئي، قبل أن تنتقل العدوي إلي الإعلام المقروء. إن الواقع من حولنا يُنبّهنا إلي أن اللغة العربية لا تستطيع اقتحام عالم المعرفة، ما لم تكن لغة اليوم، بكل تجلياته الحداثية والعصرية، في العلم والتقنية والفنون والآداب، حتي لا تكون مجرد لغة مرتبطة بالتاريخ، غارقة في الماضي فقط. ولكي تتخلص من انعزالها عن اللغات الأخري، لابد من التلاقح، واستعارة بعضها من بعض. ولابد من العناية بتمكين اللغة العربية في بيئتها، بوصفها مدخلاً سياسيًّا ومجتمعيًّا وثقافيًّا، وأساسًا للتقدم والتنمية. هذا التمكين اللغوي يخضع للسياسة اللغوية التي ترتبط بالتخطيط الاجتماعي، ومدي مراعاة هذه السياسة في ظل عالم قادم ستصبح اللغات المهيمنة فيه - كما يقول علماء اللغات - هي الإنجليزية، والصينية، والإسبانية، والهندو أوردو، والعربية. مع العلم بأن الإنجليزية هي المهيمنة الآن لارتباطها بعالم المعرفة والتكنولوجيا. فهل تكون اللغة العربية - كما يقول العالم اللغوي المغربي الدكتور عبد القادر الفاسي - سيدةً علي أرضها، غير مهانة أو منبوذة أو بعيدة عن التداول والاستخدام، وهو ما يسمي - في رأيه - بالتهميش. وفي المقابل، هل يمكن للغة العربية أن تكون - وحدها - كافية علميًّا وثقافيًّا وتواصليًّا أم لابد من إقرار التعدد اللغوي في التعليم؟ إن الاتحاد الأوروبي - كما يقول الدكتور الفاسي في كتابه عن «السياسة اللغوية» - يقدم وصفة ثلاثية في مجال تعليم اللغات: لغة أولي هي اللغة الوطنية أو الرسمية. ولغة عالمية أو بينية هي الإنجليزية. ولغة ثالثة متروكة لاختيار من يتعلم. فهل آن الأوان لوضع سياسة لغوية - بعد حوار مجتمعي - تحدد متي يبدأ تعلم أية لغة أجنبية في المدرسة، هل قبل اللغة العربية أم بعدها؟ وفي سنّ السادسة كما يحدث الآن أم بعد سن العاشرة، كما ينادي علماء التربية وخبراء تعليم اللغات؟ وهل يُفرض تعليم اللغة العربية، والثقافة العربية، في كل المدارس الأجنبية المصرية، حرصًا علي بذر الهوية والانتماء، بدءًا بالمرحلة الأولي من التعليم؟ وهل يمكن إعادة النظر في عديد الجامعات الأجنبية التي تنتشر في مصر، بدعوي التقدم واللحاق بالعصر، وتقليدًا للأمم الراقية، وتقييمُ دور هذه الجامعات في إنتاج خرّيجين مصريين مختلفي الهوية الروحية والثقافية والقومية، تتصادم عقولهم وأفكارهم وانتماءاتهم تحت سماء وطن واحد؟ إن تعليم اللغات الأجنبية ضرورة واجبة، بشرط ألا يؤثر في قدرة النشء علي تعلم العربية وإتقانها، واستخدامها في كل مجالات حياته. كما أن الاهتمام بالترجمة والتعريب ضرورة واجبة، علي أن يسير الأمر في اتجاهين متوازيين متكاملين، نقلاً من العربية وإليها. وأخيرًا، هل آن الأوان لتوسيع المعجم العام للعربية، بقصد استيعاب المفردات المعبرة عن الحياة اليومية، وذلك بتفصيح العاميّ وتعريب الدخيل، وتوسيع معجم مصطلحات العلوم؟ وهل نريد فعلاً: سياسيين ولغويين وتربويين أن تحلّق لغتنا الجميلة في فضاءات عالم المعرفة لمزيد من مقالات فاروق شوشة