إذا كان رؤساء الدول والملوك يعتقدون بأنهم يملكون القدرة على حكم شعوبهم والسيطرة عليها بشكل كامل ومطلق دون تدخلات خارجية سواء فكرية أو سياسية، فهم في الحقيقة مخطئون. وأكبر دليل على صحة هذا الكلام ما حدث خلال ما سمي بثورات "الربيع" التي شملت دولا عربية وأوكرانيا، إذ لا يمكننا أن ننسى الدور الرئيسي الذي قامت به مواقع التواصل الإجتماعي، وعلى رأسها موقع "فيسبوك" في نشر الفكر الثوري ليجوب العالم. ولم يتوقف طموح مارك زوكربيرج مؤسس موقع فيسبوك عند حد نشر الثورات من خلال صفحات موقعه التي ألغت كل الحدود الجغرافية والفكرية بين الدول، ولم يعد أي قانون أو دستور قادرا على كبح جماحها أو السيطرة عليها، بل بلغ طموحه إلى الحد الذي جعله يطلق مبادرة إنترنت دوت أورج، أو Internet.org، وهي فكرة جديدة و"ثورية" تماما تهدف باختصار إلى إيصال خدمات الإنترنت لكل فرد يعيش على وجه الأرض، مهما كان سنه أو مستواه الاقتصادي، أي إنترنت مثل الماء والهواء. وأطلق زوكربيرج هذه المبادرة تحديدا في مارس 2014، ونجح في تنفيذها فعليا في عدد من دول العالم، ومن بينها الهند وكولومبيا وغانا وكنيا وتنزانيا وإندونيسيا. ويعتمد زوكربيرج في مبادرته على التعاون مع كبرى الشركات المتخصصة في الأجهزة الإليكترونية وشركات توصيل الشبكات وخدمة الإنترنت بهدف توصيل خدمات الإنترنت بشكل رمزي أو حتى مجاني للدول الفقيرة. ووفقا للدراسات، وعلى الرغم من وصول شبكات الاتصالات والكهرباء إلى 90٪ من أنحاء العالم، فإن خدمة الإنترنت في العالم يستخدمها الآن 2,8 مليار شخص فقط، أي ما يوازي ثلث عدد سكان العالم، ليبقى قرابة ثلثي العالم يعيشون في حالة "ظلام إليكتروني". وبالإضافة إلى ذلك، أنشأ زوكربيرج مركزا للأبحاث العلمية تابعا لشركة فيسبوك لدراسة سبل تطوير خدمة الإنترنت، بحيث تكون أكثر كفاءة وسرعة وأقل تكلفة, وألا تعتمد على البنية التحتية للدول التي سيكون من الصعب تطويرها لإدخال خدمات الإنترنت، فالمدهش في هذا المشروع الضخم أنه لن يلجأ للحكومات، بل سيلغي وجودها تماما، حيث يسعى زوكربيرج للتخلي عن اعتماده على البنية التحتية للدول. ومن بين الدراسات التي يجريها مركز أبحاث زوكربيرج دراسة هدفها إنجاح توصيل خدمات الإنترنت من خلال تطبيقات جديدة على أجهزة المحمول الذكية "سمارت فون" واتصالها بالأقمار الصناعية بشكل مباشر، لتقوم بعد ذلك بفتح عدد من صفحات الإنترنت للأجهزة الإليكترونية المتصلة بها. ومن الوسائل الجديدة التي تبحثها مؤسسة فيسبوك العلمية أيضا استخدام أبراج لا سلكية مثل تلك التي تبث موجات الراديو, بالإضافة إلى تكنولوجيا جديدة، وهي بث موجات الإنترنت من خلال آشعة ليزر، إلا أن هذه الطريقة لتوصيل الإنترنت قد تتأثر بالحالة المناخية مثل السحب والأمطار. وهناك أسلوب أخر يدرسه مركز الأبحاث، وهو تكليف الأجسام الطائرة بدون طيار بمهمة نشر الإنترنت في كل مكان، بحيث يمكن تكوين أجسام متحركة وقريبة من الأرض، وهو ما يساعد على تحقيق نسبة كفاءه عالية. وتبدو مبادرة زوكيربيرج بصفة عامة بسيطة ورائعة في ظاهرها، وتسهم في الارتقاء بالبشرية، حيث أن الهدف المعلن منها هو نشر الوعي والثقافة، والمواقع التي سيتم فتحها للاستخدام مجانا من خلال تلك الشبكات الجديدة هي مواقع العمل والرعاية الصحية للأم والطفل، وذلك بهدف خفض معدلات البطالة ومعدلات وفيات الأطفال، غير أن المبادرة في داخلها تطرح تساؤلات عديدة حول ما إذا كان الإنترنت قد استوحش بالفعل، ولم يعد أحد قادرا على إيقاف توسعه، بل هو في طريقه لأن يصبح عالما أو وطنا أو دولة في حد ذاته. ومعروف أن فكرة الإنترنت بلا رقابة أصبحت تؤرق دول العالم المتحضر قبل النامي، بدليل ما حدث من تهديد لتلك الدول من ظاهرة تجنيد المقاتلين الإرهابيين لداعش وغيرها، فتطبيق هذه الفكرة يعني أن كل شيء سيخرج عن السيطرة بعد الآن، وسيصبح هذا الخروج أمرا واقعا، ولن يصبح هناك شيء اسمه "سيادة دولة على أرضها"! وظهرت بوادر فكرة زوكربيرج هذه واضحة منذ الفترة التي ترددت فيها شركات تزويد خدمة الإنترنت في دول متقدمة كثيرة في الرد على السلطات الأمنية المعنية التي طلبت في إطار تعاملها مع ظاهرة الإرهاب وتجنيد المتطرفين والصبية والفتيات عبر النت أن تساعدها شركات الإنترنت في تزويدها بالمعلومات المطلوبة المرتبطة بالإرهاب وتجنيد التكفيريين. إذن، فالإنترنت يرفض الانصياع لكل أشكال السلطة، حتى وإن كان هذا الرفض تهديد الأمن، وها قد أعلنها زوكربيرج صراحة أنه لا يريد الاعتماد على الدول والحكومات، بل يريد فقط التواصل مع الشعوب دون وسيط، وهو أمر جد خطير خطير، ويعني أن الأمور ستخرج