«إنت ما عندكش دم» قالها مسئول كبير لمواطن بسيط. «هاخشرمه» قالها مسؤول آخر فى نبرة تهديد ووعيد لا تخفي. «يا الناس تشارك فى الإصلاح يا تسكت» قالها أيضاً نفس المسئول الذى سأم النقد بعد أسابيع من تعيينه محافظاً. «أنا ما أحبش التخان ولازم تلفى المتحف عشرين مرة» قالها المسئول الأول عن الثقافة فى مصر هازئاً بموظفة محترمة بدينة مثل 80% من المصريات والمصريين». إذا أقالونى من منصبى كوكيلة وزارة (فى الواقعة الشهيرة لحرق الكتب) فمعنى ذلك انتصار الإخوان» هذا أسلوب آخر فى المهارة والتذاكى من جانب مسئولة كبيرة للإفلات من خطأ تربوى وتصرف طائش هدفه الحقيقى تسجيل نقطة فى مسيرة تطلعاتها الشخصية مسايرةً لتيار سائد يرى أن أقصر طريق لتسليط الضوء عليك هو أن تشتم الإخوان والمعارضة عموماً بتعبير مهين او خادش للحياء او باصطناع مشهد مثير لم يسبقك إليه أحد، أو باتهام 99% من المحجبات فى أعراضهن. هذه مجرد عينة من مفردات قاموس للحوار يستخدمه المسئولون الجدد فى بلادنا. وهو قاموس غير مقبول أخلاقياً وغير لائق سياسياً إذ يُفترض أنه كلما علا قدر المسئول وارتقى منصبه أوجب هذا عليه أن يكون أكثر تواضعاً واحتراماً فى حواره أو تعامله مع المواطنين. ما يثير الدهشة والعجب فى هذه الظاهرة أمران أولهما أنها قد تمثل مخالفة مسلكية للمسئول ذاته باعتباره فى نهاية المطاف موظفاً عاماً وليس من المستبعد أن تنطوى أحياناً على جريمة جنائية مثل جريمة السب. والمؤكد أنها تعنى غياب ثقافة الاحترام فى حياتنا. أما الأمر الثاني، الأكثر عجباً فهو أن المسؤولين الجدد يفعلون العكس تماماً حين يتخاطبون مع رؤسائهم رفيعى المستوي، بل انهم لا يتفوهون أمامهم إلا بعبارات الإجلال والإطراء فيما يصل غالباً إلى حد النفاق. والواقع أن بعض المسئولين الجدد لم ينتبهوا جيداً إلى قاموس حوار رئيس الدولة نفسه أو رئيس الوزراء مع عموم المواطنين وكيف يبدو هذا القاموس مهذباً وذكياً. ربما كان مفيداً أن يتأمل بعض مسئولينا كيف يتعامل كبار المسؤولين الأجانب مع المواطنين حتى وهم ينتقدونهم أو يقذفونهم من بعيد بالبيض أو الطماطم. هذه بالطبع ليست دعوة إلى قبول الانفلات أو تبريراً لخروج المواطن على موجبات الاحترام لكن الفكرة ببساطة هى أن المسئول الذى تقلّد منصباً عاماً كبيراً عليه أن يترفّع عن الصغائر لا سيما إذا كان المواطن الذى تعرض للإهانة لم يصدر عنه قول أو تصرف معيب. ففى حالة موظفة متحف محمود سعيد التى أهانها وسخر منها على العلن السيد الوزير كان كل ما صدر عنها هو شكواها للوزير المسئول عنها وظيفياً من تأخر الإدارة المركزية فى العاصمة فى متابعة مشكلة إدارية لها رغم إرسالها العديد من الخطابات وإجراء الكثير من المكالمات الهاتفية. السؤال الآن لماذا تدهور قاموس بعض كبار المسئولين ومفردات تخاطبهم مع المواطنين؟ الواقع أن هذه الظاهرة تبدو جزءاً من ظاهرة أعم وأشمل تجتاح مجتمعنا بأسره، وهى بالمناسبة ظاهرة تثير حيرة وتساؤل الأشقاء العرب. فى لقاء جمعنى مؤخراً فى أحد المؤتمرات بالقاهرة مع وزير عربى سابق ومثقف كبير كانت هذه الظاهرة موضوعاً لحديثنا. قال لى الرجل لقد تعلّمنا منكم فيما مضى الرقة والذوق فى الحوار والتعامل فما الذى جرى وما هذا القاموس الجديد على المصريين فى فضائياتهم ومقالاتهم وزواياهم الصحفية من كلمات وأوصاف معيبة؟ قلت لصديقى المثقف العربى إن هذه الظاهرة تذكّرنا بما سبق أن كتبه عالم الاجتماع العربى الأشهر ابن خلدون من ان المجتمعات تمر أحياناً بمراحل تحوّل بالارتقاء أو التدهور تشبه حركات المد والجزر فى البحار والمحيطات. هكذا يبدو أن مجتمعنا يعيش اليوم حالة جذر لمياهه الأخلاقية فلم يعد الإعجاب بالكلمة الرقيقة او المنطق العلمى او الفكرة الملهمة بقدر ما أصبح الإعجاب بالسخرية المهينة والكلمة الفاحشة بل والإسقاطات الجنسية المبتذلة فى معرض معالجة موضوع سياسى أو اجتماعي. كانت الممثلة الراحلة زينات صدقى تثير ضحكنا فى وصلاتها الشهيرة للردح فى الأفلام المصرية القديمة. اليوم لم يعد الردح أداء تمثيلياً ضاحكاً كما كان أيام زينات صدقى بل صار ظاهرة واقعية تبعث على الاكتئاب وقد أصبحت كرامات الناس وأعراضها مستباحة لمجرد خلاف سياسي، فلا عجب إذن أن يصبح بسطاء الناس محلاً للإهانة من جانب بعض المسئولين. ما هى إذن أسباب تدهوّر قاموس الحوار لدى المصريين ؟ من الصعب اختزال الإجابة فى تدنى نظام التعليم او تراجع الثقافة. المنظومتان مسئولتان بالطبع عن تدهور قاموس الحوار لكن هناك متغيراً جديداً طرأ على مجتمعنا. إنه بالتحديد ما حدث فى 25 يناير و30 يونيو، إذ يبدو أن هذين التاريخين الفارقين كانا أكبر من قدرة المصريين على تحمل الاختلاف. فلم يُقَدَر للمصريين من قبل أن يكتشفوا اختلافاتهم العميقة، وحينما اكتشفوها لم يعرفوا كيف يديرونها بل سعوا إلى تفجيرها كأنها لعبة طفل عجز عن تشغيلها فقام بتحطيمها. أما على مستوى النخب القيادية والمسؤولة فإن بعضها لم يترسخ فى وعيه بعد أنه (ملتزم) بأداء خدمة عامة معيار نجاحها الوحيد هو رضاء المواطن عنه، وأن أداء هذه الخدمة العامة هو السبب الوحيد لما يحصل عليه من رواتب ونفوذ وأضواء. ولأن ذلك غائب فى وعى البعض لم يتردد فى إهانة موظفة أو وصف شعب بأنه متسوّل أو التهديد بخرشمة من لا يحظى بالاستلطاف. هكذا تراجعت ثقافة الاحترام فى بلادنا. -------------- قالوا : «الثورة ؟ نعم ! لكن اسمعوا جيداً ليس من ثورة حقيقية إلا بالثورة الأخلاقية». لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم