منذ أن علمت عن تخصيص 10 مليارات جنيه من أجل إعمار سيناء؛ لمقاومة الإرهاب فى المستقبل، وأنا فى حالة شديدة من القلق بل الذعر يفسرها انتمائى الى جيل شهد أربع حروب مع العدو الاسرائيلى على حدودنا الشرقية؛ عدوان 1956، 1967، حرب الاستنزاف التى دامت أكثر من ثلاث سنوات، ثم حرب التحرير فى أكتوبر 1973. وفى نفس الوقت قرأت بتعمق ودرست حرب فلسطين التى سبقت كل هذه الحروب فى عام 1948، والتى شهدت غدر العدو الصهيونى وانتهاكه لكل القرارات الدولية ليغتصب الأرض بالعدوان، وخاصة فى فترات الهدنة! إن جيلى يدرك - بل عايش الأهمية الاستراتيجية لصحراء سيناء؛ بوابة مصر الشرقية، ومساحتها 61 ألف كم2، وتمثل 6% من مساحة بلدنا، وهو ما يعادل ثلاثة أمثال مساحة الدلتا، كما أن لها أطول ساحل فى مصر بالنسبة لمساحتها؛ فسيناء تعادل 6.1% فقط من مساحة مصر، بينما تبلغ سواحلها 29% من شطآنها؛ طولها 700 كم من 2400 كم هى مجموع سواحل مصر! وهنا أرجع الى العلاّمة المصرى الدكتور جمال حمدان، فقد ذكر فى كتابه «شخصية مصر»، 1981، ما يلى تحت عنوان «مفاتيح مصر الاسترتيجية»: «إن أركان استراتيجية مصر الداخلية لا تكمل إلا إذا اعتبرنا أطراف المعمور الدقيقة التى تربط جسمه الأساسى بالعالم الخارجى المحيط: سيناء فى الشمال الشرقي، ومرمريكا فى الشمال الغربي، والنوبة [ وبحيرة ناصر] فى الجنوب، وكل منها بوابة لمصر، وخلفها تقوم مفاتيح لمصر... ولما كان طريق الخطر الخارجى البرى الى مصر هو الشام أساسا، وكانت سيناء تحتل النقطة الحرجة بين ضلعى الشام ومصر اللذين يكونان وحدة استراتيجية واحدة، فقد أصبحت طريق الحرب بالدرجة الأولي. إنها معبر أرضي، وجسر استراتيجى معلق أو موطئ عبرت عليه الجيوش منذ فجر التاريخ مئات المرات جيئة وذهابا؛ تحتمس الثالث وحده عبرها 17 مرة »! والواقع، والكلام مازال للدكتور جمال حمدان.. «فإن لسيناء أطول سجل عسكرى معروف فى التاريخ تقريبا... من هنا فإنها أهم وأخطر مدخل لمصر على الإطلاق. وذلك بمضايقها الثلاثة؛ ممر متلا إزاء السويس، وطريق الوسط إزاء الاسماعيلية، وطريق ساحل الكثبان الشمالى ابتداء من القنطرة. وبغير مبالغة، فسيناء أيضا مدخل قارة بأكملها مثلما هى مدخل لمصر. إن سيناء برمتها وحدة جيوستراتيجية واحدة؛ لكل جزء منها قيمته الاستراتيجية الحيوية. فأما المثلث الجنوبي... فإن كان لا يأتى إلا فى المرتبة الثانية كطريق حرب وكميدان قتال، إلا أنه بتعمقه وبروزه نحو الجنوب يعطى، خاصة فى عصر الطيران، نقاط ارتكاز للوثوب على ساحل البحر الأحمر بالأسطول البحرى أو بالطيران، وكذلك لتهديد عمق الصعيد المصرى بالطيران! كما أثبتت محاولات العدو الاسرائيلى بعد يونيو 1967، حين تسلل بوحداته البحرية الى بعض مراكز ساحل البحر الأحمر، وبطائراته الى منطقة نجع حمادى وحلون.. إلخ... ومن سواحل سيناءالغربية يمكن تهديد ساحل خليج السويس الغربى مباشرة، وخاصة منطقة السويس. وأقرب مثال على ذلك محاولة العدو الصهيونى الهجوم على الجزيرة الخضراء بعد يونيو 1967، ثم تهديده للزعفرانة والسخنة عشية 6 أكتوبر 1973، ولا ننسى كذلك معركة جزيرة شدوان على مدخل خليج السويس أثناء حرب الاستنزاف، 21 يناير 1970، التى صمدت فيها لهجوم اسرائيلى بحرى جوى مكثف حتى ردته مدحورا على أعقابه. ولكنها، شرم الشيخ بصفة خاصة، هى التى تعد المفتاح الاستراتيجى لكل المثلث الجنوبى لسيناء؛ فهى وحدها التى تتحكم تماما فى كل خليج العقبة دخولا وخروجا عن طريق مضيق تيران... الذى لا يترك ممرا صالحا للملاحة إلا لبضعة كيلومترات معدودة، تقع تماما تحت ضبط وسيطرة قاعدة شرم الشيخ الحاكمة». ويمضى الدكتور جمال حمدان.. «أما القيمة الاستراتيجية للمستطيل الشمالى لسيناء بالذات، فهى فائقة خارج كل مقارنة وكل حدود... فهو بموقعه مقدم الإقليم وبتضاريسه المعتدلة، وبموارد مياهه المعقولة، هو (الطريق) طريق الحرب، كما هو طريق التجارة وكان تلقائيا وبالضرورة ميدان المعركة ومسرح الحرب فى القديم كما فى العصور الحديثة والى يومنا هذا. إن من يسيطر على المستطيل الشمالى يتحكم أوتوماتيكيا فى المثلث الجنوبي، وبالتالى يتحكم فى سيناء كلها... ولم يكن غريبا أن يعتبره بعض العسكريين القاعدة الاستراتيجية الحقيقية للدفاع عن مصر... وكقاعدة جيوستراتيجية، تتلخص أبعاد المستطيل الشمالى أساسا فى محورين استراتيجيين؛ الأول يتعلق بطريق المواصلات والحركة وخطوط الاقتراب بين الشرق الفلسطينى والغرب المصرى، والثانى يمثل خطوط الدفاع الأساسية عن مصر النيل، والتى تمتد من الشمال الى الجنوب، وتتعاقب عبر سيناء من الحدود الى قناة السويس... والمحوران ينسجان معا الشبكة الفعالة والحاكمة فى أى صراع مسلح على مسرح سيناء، والتى تحدد مصيره الى أبعد الحدود ». ويؤكد الدكتور جمال حمدان أن لسيناء خطوط دفاعية ثلاثة؛ الأول: يقترب من الحدود السياسية فى الشرق اقترابا شديدا، «وهو أكثرها تعرضا للخطر وأقلها مناعة، فإنه لا يتمتع بعمق استراتيجى كاف، ولكن لهذا السبب بالذات ينبغى أن تتمسك به مصر، وتستميت دائما فى الدفاع عنه؛ لأن وقوعه ينقل ضغط العدو فورا الى الخطين الثانى والثالث. أما خط الدفاع الثانى فهو خط المضايق، «وهو معقل سيناء الحقيقى ومفتاحها الحاكم، والصمود فيه يمكن من استرداد الأرض المفقودة شرقه وإعادة السيطرة على الخط الأول، فضلا عن أنه هو الضمان الأخير والوحيد للمحافظة على القناة، أى خط الدفاع الأخير... وفقدانه يعنى على الفور أن تتحول الشقة الواسعة بينه وبين القناة الى أرض معركة فاصلة ولكنها صعبة الى أقصى حد... فإذا لم يحسم المُدافع هذه المعركة لصالحه، أصبح العدو على ضفة قناة السويس توا، وباتت هذه مهددة، فضلا عن تعطلها الى حد الشلل التام! ومعنى هذا مباشرة وبوضوح أن قيمة القناة كخط دفاعى إنما تستمد من قيمة المضايق الحاكمة. ورغم إمكان صمود المُدافع وراء القناة، فإن احتمالات عبورها ليست مستبعدة تماما، كما أثبتت التجربة أكثر من مرة؛ ومعنى هذا تهديد الوادى نفسه».. والخلاصة كما يطرحها الدكتور جمال حمدان.. «إننا نستطيع أن نعبر عن الموقف الجيوستراتيجى لسيناء كله بإيجاز وتركيز فى صيغة سلسلة من المعادلات الاستراتيجية المحددة على النحو التالي: «من يسيطر على فلسطين يهدد دفاع سيناء الأول [ الملاصق للحدود]، ومن يسيطر على خط دفاع سيناء الأوسط [ حيث الممرات] يتحكم فى سيناء، ومن يسيطر على سيناء يتحكم فى خط دفاع الأخير، الذى يهدد الوادى »! لماذا اعارض؟ لعلنى أكون قد استطعت فى إيجاز شديد أن أوضح ماذا تعنى سيناء لمصر استراتيجيا ودفاعا وأمنا، وإننى أعتقد أن الله قد حبا مصر بحدود آمنة من جميع الجهات كما سبق أن أوضحت، وإن كانت صحراء سيناء تمتاز أنها فى الواقع » إنذار مبكر... إنها ككل- خط الدفاع الأخير عن مصر الدلتا والوادى». من هنا أرى أننا نرتكب خطأ فادحا إذا قررنا إعمارها؛ فلا بد أن تترك هذه الصحراء الاستراتيجية خالية مفتوحة لتعطى الفرصة لحرية الحركة والمناورة لوحدات الجيش المصري؛ حتى يتمكن من صد أى هجوم من الشرق من جانب الصهاينة الذين لم يتخلوا حتى الآن عن عقيدتهم «من النيل الى الفرات»، حيث أنهم معتادون على التخطيط للمدى الطويل وعلى مراحل، أى أن اسرائيل هى وستظل الى الأبد عدونا الأول فى الحاضر والمستقبل. وطالما أن قضية فلسطين لم تحل ولا أتوقع حلا لها فى المستقبل القريب فهذا عامل يؤكد وجهة النظر التى تنفى احتمال استتباب الأمن على حدودنا الشرقية. ولا يجب أن ننسى هنا » أن أطماع الصهيونية فى سيناء قديمة؛ فإن هرتزل أرسل اليها بالفعل بعثة صهيونية لدراسة إمكان التوطين اليهودى بها. وقد اقترحت البعثة نقل مياه النيل عبر قناة السويس الى شمال شبه الجزيرة، خاصة منطقة العريش للاستزراع والتوطين«! يضاف الى ما سبق الخطط الفاشلة من جانب تركيا وبريطانيا لفصل سيناء عن مصر؛ تلك الخطط التى » بعثتها الى الحياة بحذافيرها تقريبا اسرائيل منذ سنة 1956... فحين أرغمت على التراجع من سيناء فى مارس 1957 بعد أن كانت قد أعلنت رسميا ضمها، بدأت تراوغ بالمساومة فاقترحت خطوط تقسيم« باءت بالفشل. وبعد يونيو 1967 عادت اسرائيل تثير موضوع مصرية سيناء... ومضت بسياسة الأمر الواقع تعمل لتهويد شبه الجزيرة أو أجزاء منها؛ تطرد الأهالى وتقيم المستعمرات خاصة حول رفح والعريشوشرم الشيخ.. إلخ. والآن، هناك الخطر الجديد الذى لم يكن ليخطر على بال أى مصري؛ وهو التهديد الفلسطينى الذى يطمع فى أرض سيناء المصرية، ضمن مخطط صهيونى لتوطينهم فى هذه الأرض المقدسة؛ كبديل عن الضفة الغربية من أرض فلسطين السليبة! ومما لا شك فيه أن مشروع إعمار سيناء المقترح والذى أرفضه بشدة يسهل تنفيذ هذا المخطط؛ حيث يمكن الإرهابيين من الفلسطينيين أن يندسوا بين السكان المصريين، بل ويتيح لهم الفرصة أيضا من أن يجندوا حفنة ضعيفة النفس منهم، وهذا بلا شك يصعب بل يحول دون نجاح عملية القضاء على هذا الإرهاب الجبان الجاحد! ويطوّل من مدى العمليات الحربية ضده. إننا لا نريد أن نضع فى يد أعداؤنا رهينة عزيزة من أهل مصر، كما حدث أثناء حرب الاستنزاف من يونيه 1967 حتى إيقاف إطلاق النار فى أغسطس 1970 وعلى حد قول الفريق محمد فوزى فى حوار مسجل لى معه: «لقد كان يصل الينا كل يوم كشف القتلى والشهداء، وبه المدنيون أكثر من العسكريين بأعداد كبيرة! فتم تهجير سكان مدن القناة الثلاث؛ السويس والإسماعيلية وبورسعيد الى الداخل فى عملية كانت منتظمة وناجحة. ولقد كان العدد أكثر من نصف مليون مواطن، رحلوا من بيوتهم ومزارعهم الى داخل الدلتا». ويضيف الفريق محمد فوزي: «ولن أحكى عن شعور أهالى الدلتا وبنى سويف والفيوم الذين تقبلوا مئات الآلاف من مواطنى منطقة القناة فى حضنهم؛ حتى لا يكونوا رهينة رخيصة لدى اسرائيل»!وكعادة جمال عبد الناصر فى مكاشفة الشعب المصرى باستمرار بكل حقائق الموقف، قال أمام مجلس الأمة فى 23 نوفمبر 1967 أثناء حرب الاستنزاف: «لقد أخلينا عددا كبيرا من سكان السويس والإسماعيلية؛ لأننا عارفين إن العدو ماسكنا من رقبتنا هناك، وأنه عندما يحدث قتال بينا وبين قواته يقدر يوجه مدافعه إلى المدنيين، ويموّت عددا كبيرا من الناس؛ وبهذا يخلينا باستمرار نشعر بالضغط؛ ولهذا قررنا أن نهجر.. وهجرنا أعدادا كبيرة. وفى رأيى [والكلام لعبد الناصر] أن المعارك لابد أن تدار على الأسس العسكرية السليمة وحدها، ولا يمكن أن نقبل إدارة المعارك باستراتيجية النوادى والحفلات ومقالات الصحف! [نحن] نحدد نطاق المعركة، وهذا هو الأمر السليم». والآن هل نريد مع سبق الإصرار والترصد أن نوجد رهينة جديدة فى صحراء سيناء؟! ومما يؤيد وجهة نظرى أنه قد تم فعلا منذ أكتوبر 2013 إقامة منطقة عازلة خالية من السكان على حدود مدينة رفح المصرية كمرحلة أولى بطول 14كم، وعرض 500 متر شملت 602 منزل، 1150 أسرة، وذلك بعد اغتيال 33 شابا مصريا من قوات الأمن التى تحمينا على يد الإرهابيين الفلسطينيين! وفى مرحلة ثانية، تم أيضا إخلاء مساحة بعرض 500 متر ضمت 1160 منزلا، 2200 أسرة، وتم فعلا صرف التعويضات للأهالى فى هاتين المرحلتين. «إن تراب سيناء قد امتزج بالدم المصرى المُدافع ربما أكثر من أى رقعة أخرى مماثلة من التراب الوطني، فحيث كان ماء النيل هو الذى يروى الوادي، كان الدم المصرى هو الذى يروى رمال سيناء»! لمزيد من مقالات د. هدى عبد الناصر