أخذت أجازة من العمل , قبل صدور الحركة بأربعة أيام , اعترض رئيسي اللواء المدير العام , أخبرته أنني أحتاجها , حتى لا يفاجئني قرار الإحالة للمعاش , وأنا منهمك فى العمل , قال : أنت متأكد من انك ستحال للمعاش ؟ قلت له : - أنا أتمنى أن أستمر فى العمل , ولكن الأمر كما تعلم ليس بيدي , ولا بيدك . جادل كثيرا , كنت أعرف أنه يجاملني , ويريد أن يؤكد لي أنه كان يريدني أن أستمر معه في العمل , وأخبرني انه كتب عني , كلاما طيبا , وهو ما يجعل الوزير يمد خدمتي في العمل مدي الحياة . كنت متأكدا أنه يكذب , ويحاول أن يبدو مجاملا , لأنه فى أثناء الكلام كان يحول عينيه بعيدا عني , وكان يطرق إلى الأرض ليتجنبني , وقد عرفت من صديق لي في الوزارة , انه قال للجنة التي قابلتنا قبل ذلك , لتقييمنا , أنه لا يريدني أنا , ومعي خمسة من زملائي .. لأجل هذا كرهته ,ولا أريد أن أراه , ومع ذلك أخبرته , أنني لا أريد أن أرى الشماتة , ولا الرثاء , في وجوه زملائي ومرءوسي , وأنا خارج من مكتبي آخر مرة بعد صدور القرار . كما كنت قد خرجت من مجلس تأديب الضباط , بعقوبة تعيق النمو , كما يقولون عندنا في الداخلية , بسبب كتاب نشرته , لم يتحمله الوزير , لأجل هذا كنت متأكدأ من أني لن ابقي في الوزارة . فى النهاية وافق المدير على الإجازة . جمعت أوراقي الخاصة من فوق المكتب والأدراج , كانت اشياء لا لزوم لها , ولكنني يجب أن افسح مجالا للقادم بعدي , ليكون المكتب نظيفا أمامه . مقلمة على هيئة ساعة, إطار صغير للصور فيه صور أسرتي . تليفون على شكل آلة كاتبة . مجموعة من الأقلام , مبراة ضخمة ألمانية الصنع , مصحف له غلاف جلدي سميك , مدون على هوامشه تفسير للقرآن الكريم و شرح للكلمات . طاقم مكتب جلدي , وساعة مكتب في ظهرها بوصلة , تشير إلى اتجاه القبلة وأجندة تليفونات , دونت فيها أرقام تليفونات كل أصدقائي ومعارفي ومن اتعامل معهم في عملي . اوراق بيضاء في علبة من البلاستيك أكتب فيها الأشياء المهمة , أو بعض الملاحظات . فتحت أدراج المكتب . أجندات كثيرة , ودفاتر صغيرة , تعود لسنوات بعيدة ماضية , كنت أدون فيها ذكريات خاصة ومواقف حدثت لي , تعينني علي تذكر الأحداث , تواريخ تخص العمل وتخصني , أكتب كل شىء كما هي عادتي , فأنا أدون كل شىء , مهما كان تافها وحقيرا. المجلات التي اشتريتها علي مدي أكثر من ثلاثين عاما, هي كل خدمتي , بعض تلك المجلات كانت تتحدث عن مناسبات مرت بها البلاد , نسيناها , منها مجلة تتحدث عن أحداث سبتمبر 1981 , وما جرى فيها , والفترة التي أعقبتها , وفيها صور لعملية اغتيال الرئيس أنور السادات , واحاديث صحفية أدلي بها بعض الوزراء , وكلها تتعلق بحادث مقتل الرئيس السادات . ومجلة فيها تسجيل كامل لمضبطة مجلس الشعب , فى الجلسة التى خصصها المجلس لوزير داخلية , وهو يرد على استجواب , قدمه أحد الأعضاء عن عمليات التعذيب , وقتها أحضر الوزير شريط فيديو , وظهر فيه أحد الصحفيين , وهو يتحدث عن كيفية إعداد الصور التى ظهرت فى الجرائد والمجلات التي تتحدث عن التعذيب .وفى نفس الشريط دخل على خط التليفون , الذي كان يراقبه الوزير , شيخ جليل , وهو يسأل الصحفي عن سعر الدولار , وقتها إتهم الوزير الشيخ , بأنه يتاجر فى العملة , لقد أصبحت تلك المجلات تاريخا يقرأ. وأصبح الصحفي رئيسا لحزب , ورشح نفسه لرئاسة الجمهورية , منافسا للرئيس , وسجن وخرج , ومجلة ثالثة تتحدث عن فضيحة تليفونات شهيرة , سجلها أحد الهواة , وكانت لوزير معروف , مع شابة أرمينية, سيدة مجتمع , راقية وجميلة , كانت تعاشر عددا كبيرا من المسئولين , ووصل الأمر إلي مجلس الشعب , وقتها تعجب رئيس الوزراء , من الأعضاء الذين أثاروا الموضوع تحت قبة المجلس , وقال قولته الشهيرة : كيف تمنع الحكومة , رجلا من تقبيل عشيقته , في بير السلم ؟ ومجلات , وصحف أخري , وكتب .. جمعت كل هذه الأشياء , ووضعتها فى كرتونة , وطلبت من شعبان عسكري المكتب , أن يحملها الى السيارة . استدعيت أمين المخازن . سلمته الطبنجة , سلاحي الشخص . لم أستخدمها قط , إلا في تدريبات ضرب النار , كان هذا السلاح هاجسي الأكبر طوال مدة خدمتي , كنت حريصا عليه , حتى لا يضيع منى , أو أنساه فى مكان ما , كما حدث مع أحد الزملاء ونسى سلاحه الشخصي فى دورة مياه أحد المساجد , وقتها أوقفوه عن العمل , وحولوه إلى مجلس تأديب , ثم ضُبِطَت الطبنجة بعد ذلك , وكان عامل المسجد الذي عثر عليها يحاول بيعها . وعندما تدخل المرشد لشرائها قبضوا عليه , وأعيدت الطبنجة إلى الحكومة , ولكن زميلنا دفع ثمنها وعوقب . أخرجتها من جرابها الجلدي , ووضعتها علي المكتب , بعد أن نزعت منها خزينة الطلقات , أفرغت الخزينة من الطلقات , طلقة , طلقة . تناولها أمين المخزن دون أن ينظر فى وجهي , نظر فى الرقم المدون مؤخرتها وظرف الماسورة , وطابقه بالرقم المدون فى الاستمارة التى عنده . لم يتكلم . أعطيته الطلقات , نفس العدد كما تسلمته مع الطبنجة . حرر لي إيصالا , يفيد إخلاء طرفي من الطبنجة والذخيرة, وناولني الرجل الإيصال صامتا . حاولت أن أعطيه بعض النقود , رفض , وانخرط في البكاء دون سبب واضح . ألقيت نظرة أخيرة على المكتب , الذي أمضيت فيه سبع سنوات كاملة , كل جزء فيه يذكرني بموقف تعرضت له . دولاب الملابس , حيث كنت أستبدل ملابسي الرسمية بالمدنية كل يوم . على باب الدولاب من الداخل , مرآة صغيرة أحضرتها فى اليوم الأول , لاستلامي العمل فى هذا المكتب . أضبط عليها رباط العنق الكاكي . وأعدل وضع علامات الرتب على كتفي , وعلامات الشرطة , علي ياقتي السترة الصوفية السوداء , وأضبط وضع الكاب علي رأسي قبل دخولي عند المدير العام . علي الحائط , وفوق رأسي مباشرة , صورة لرئيس الجمهورية ,مازالت كما هي نفس الملامح الشابة لم تتغير منذ أربعة وعشرين عاما , صحيح أنها تستبدل كل عام , بصورة أحدث تبدو أكثر شبابا , ووجهه اكثر لمعانا , وشعره اسود داكن , ونظرته للأشياء حيادية , يبدو كشاب في الثلاثين , كل صوره تشترك فى النظرة الصارمة , التي أجاد المصور التقاطها , من زاوية تبرز وسامة الوجه , وشباب المظهر , وبريق العينين , وتلقائية النظرة , وصرامة العسكرية , وتخفي تجاعيد السن . وكانت براعة المصور أيضا في اختيار الزاوية , بحيث يجعلك تدور مع نظرة عيني الصورة القاسية , في كل إتجاه . فهي لا تترك المجال للفكاك منها , إلا بإغماض عينيك معا , حتي لا تراها . لأجل ذلك وضعتها فوق رأسي , ولم أضعها في مواجهتي , حتي لا اراه , وأتجنب ما تسببه لي من حساسية خاصة . جاء زميلي العميد شفيق , وهو الذي سيحتل المكتب بعدى . تظاهر بأنه جاء ليودعني , ولكنه جاء ليلقى نظرة أخيرة على المكتب , وليتأكد من بقاء مستلزمات المكتب الرسمية والمستديمة كما هي . عدة التليفون الأميرية . جهاز الفاكس . جهاز الكمبيوتر بمشتملاته الهارد , والمونيتور , والماوس , والكي بورد , والطابعة . ماكينة تصوير المستندات , ماكينة إتلاف الأوراق, جهاز التكييف بالروموت كنترول , دباسة الأوراق الضخمة صينية الصنع . خرامة ورق لونها احمر غامق . الدفاتر الرسمية التي تخص العمل . رزم من الأوراق البيضاء التى لم تستخدم . دوسيهات . رزمة من أوراق الكربون . كشاف إضاءة فى حالة انقطاع التيار الكهربي . حذاء جلد برقبة طويلة , يستخدم عند نشوب الحريق . أظهرت له كل الأشياء الخاصة بالمكتب. أعطيته الأوراق السرية , والتقارير المهمة , التي تخص العمل , وفيها تقارير أداء للعاملين .. زميلي شفيق , يلازمني ملازمة مستديمة منذ يومين , ولم يفارق مكتبي قط . حتى وأنا أتكلم فى التليفون , كان يتظاهر بأنه يقرأ الجريدة , وكانت آذانه تلتقط كل مكالماتي , كان يريد أن يعرف مع من أتكلم , والموضوع الذي نتحدث فيه . لم يكن العميد شفيق , هكذا فى أول الأمر , ظهرت عليه تلك الأعراض منذ أن عرف أنني ساتقاعد , وأنه سيجلس مكاني علي مكتبي . كان واثقا انه سيخلفني , لأنه الأقدم بعدى , بدأ يجلس معي فترات طويلة , فسرتها في أول الأمر , بأنها رغبته في أن يعرف كل شىء عن العمل الذي سيسند إليه , وفسرها هو , بأنه لا يريد أن يتركني لحظة , لفرط محبته الزائدة لي !! عمل شفيق معي منذ ثلاث سنوات , منذ أن جاء مطرودا من أمن الدولة , حاول أن يفسر لي , في جلساتنا الودية , السبب الذي من أجله طردوه , وإخترع حكاية تافهة , وصدقتها , أو تظاهرت بتصديقها !. شفيق يتمتع بمقدرة هائلة جمع المعلومات , وترتيبها , وتوصيفها , وتوصيلها الي من يحتاجها . تكلم معي كثيرا عن أمجاده في وظيفته السابقة , خانتني الذاكرة , ولم تحتفظ بشىء مما حكاه , وهي فرصة ندمت عليها غاية الندم , لأنها كانت ستضيف إلي ما اكتبه سحرا خاصا , ولكنه , والحق يقال , ساعد دون أن يقصد , في تحقيق نوع من الارتياب العام بين ضباط الإدارة التي اعمل بها , كما نجح في خلق جو من التوتر , والقلق , فقد كان يشي ببعض أسرارنا الصغيرة , لرؤسائنا في الوزارة , وفي مكتب الوزير , وهم هناك يتلهفون , لتكون بمثابةغلطة يبتزوننا بها , مما ساهم , في توسيع الجفوة بين الضباط , وبدأنا نرتاب في بعضنا البعض كمجموعة كانت متآلفة , وسرعان ما صدرت إليه التعليمات من رآستنا , بأن يلتزم بتعليمات التسلسل الوظيفي ولا يدخل إلا مكتب رئيسه , الذي هو انا . كان هذا في حد ذاته مؤشرا جيدا , لرفض ممارسته , وطريقته في الدخول للمكاتب وبث المعلومات التافهة . هو الآن يراقبني , طبقا لأبسط أنواع المراقبة التي تعلمها , نعرف هذا الأسلوب فى الرقابة على تصرفات القيادات قبل لحظات من تركهم العمل , وقراراتهم , حتى لا يتصرف أحدهم على نحو مريب تحت شعار « يا رايح أكثر من الفضايح « . لم أمارس هذا الأسلوب مع المدير الذي كان قبلي . أشاع العسكري شعبان بين العاملين فى الإدارة أنني عرفت بالحركة وأنني منقول من الإدارة آلتي اعمل بها إلى مكان بعيد في الصعيد . توافد على المكتب بعض الضباط ممن عملوا معي , سلموا على , سألوني عما سمعوه , أخبرتهم أنني لم أعرف شيئا , وأنني فقط حصلت على أجازه . توافد على المكتب بعض الضباط من العاملين معي , سلموا على , بدا بعضهم مغتبطا دون أن يدرى , كانت عواطفه تلقائية فى التعبير عن حالته , بينما جلس الآخرون صامتين . مكثوا جميعا دقائق معدودة وغادروا المكتب . جاء بعدهم العاملون المدنيون , ومعهم بعض الموظفات ومعهن شيرين , أحضروا معهم على عجل هدية صغيرة فى حجم علبة السجائر . ملفوفة بورق يلمع . صافحوني جميعا , ظلوا واقفين , تكلم الأستاذ جرجس كبيرهم , وقال أنني تركت فيهم انطباعا ليس من السهل ان يمحى , كانت شيرين تنظر لحذائها , ولا تواجهني , قدم جرجس هدية باسم العاملين في الإدارة, وصافحوني ثم خرجوا . تأخرت شيرين قليلا , نظرت إليها وهي خارجة . كانت أردافها ممتلئة , ووسطها ضيقا بشكل مثير . لم أفطن إليها من قبل . لم يكن بيني وبينها شىء , كما أنني لم أعاملها معاملة خاصة , تميزها عن غيرها من زميلاتها , ولكنها كانت عندما تدخل عندي , تتلعثم في الكلام , وترتبك لدي أي سؤال , واعتبرت هذا نوعا من الخجل , وأحجمت عن توجيه أي أسئلة لها , ولكنها بعد أن تضع الأوراق أمامي لتوقيعها , تقف عن يميني , كانت تتعمد الإلتصاق بكتفي , كنت في كل مرة أبعدها , خشية دخول احدهم فجأة , طلبت منها أن تقلب الأوراق , وهي واقفة أمامي لا بجواري , ولكنها كانت تنحني فيبدو مفرق ثدييها المثير . عرفت أنها فعلت هذا مع المدير الذي قبلي , وبالطبع ستكون واحدة من المزايا التي يتمتع بها شفيق من بعدي . نظرت إليها , ويدها لا تزال في يدي , ضغطت علي يدها وهي تصافحني, إبتسمت , ولكنني سرعان ما تداركت , وتركت يدها , وجمعت أشيائي . وغادرت المكتب إلى محطة قطار الصعيد .