ان ظواهر مثل الاختطاف بمختلف اساليبه والقرصنة البرمائيّة، والابتزاز كمنهج للسلب والتكسّب هي من افرازات التاريخ منذ بواكيره وليست نتاجا لعصرنا، لكنها حملت اسماء اخرى، وكانت لها ادواتها التي شملها التطور والتحديث تماما كما هي مهنة الصيد، وحين يتحدث الناس اليوم عما يسمى اختطاف الدّولة، يتصور البعض ان هذا الفعل اقترن فقط بما انتهت اليه النظم السياسية من تشكلات، والحقيقة ان كل ما سبق ذكره حدث من قبل لكن اختلاف التقنيات هو ما أوهم الناس بأن هذه المفاهيم طارئة، فثمة امبراطوريات تعرّضت للاختطاف من اطرافها، خصوصا في الأزمنة التي لم تكن فيها وسائل الاتصال مُتاحة، فثمة اخبار كان يستغرق نقلها من منطقة الى اخرى شهورا او أسابيع، وثمة تقليد انتخابي في امريكا بقي حتى الآن رغم تحوله الى طقس او ممارسة رمزية له صلة بتحديد المدة التي تتم بها عملية الانتخابات والاعلان عن نتائجها تماما كما ان الضباب الأبيض بقي حتى الان في الفاتيكان بمثابة رسالة اولى تُبلغ الناس بأن ما تم اختياره من قرارات اصبح وشيكا . ما استجدّ على اختطاف الدولة في عصرنا هو استخدام ذرائع لم تكن مستخدمة من قبل، على طريقة الحق الذي يراد به باطل، فالعصيان مثلا في اقليم من الدولة تعبيرا عن رفض الطغيان والاستبداد قد يكون المقصود منه اختطاف الدولة لكن من احد اطرافها الرّخوة، والنموذج المعاصر الذي يجسّد هذا الاسلوب هو المنهج الداعشي الذي يستغل فراغا في الدولة ثم يسعى الى التمدد كي يقضمها كلها بدءا من احشائها كما تفعل الحيوانات المتوحشة الجائعة، واذا كان لا بد من استخدام مصطلح حديث لتوصيف هذا المنهج في اختطاف الدولة فهو " مَلْشَنَتَها " اي تحويلها الى ميليشيا اخرى تشتبك مع من يحاولون اختطافها وهي بذلك تتخلى اولا عن شرعيتها التاريخية باعتبارها تتكون من ثلاثة اقانيم هي الارض والشعب ونظام الحكم . لهذا ما من تسمية اخرى ادق من الاختطاف، وقد يقول البعض على سبيل الاستطراف اللغوي ان مصطلح الدولة باللغة العربية مشتق من الفعل دالّ وهو يعني الزوال، مستشهدين بقول الشاعر : هي الايام كما شاهدتها دول، وهذا المصطلح على النقيض من مصطلح الدولة في اللغات الاخرى وبالتحديد الانجليزية حيث يعني STATE ، الثبات والرسوخ، لكن هذه المطارحات تبقى من عالم القواميس وليست من منجزات التاريخ وما أفرز عبر أزمنة تبدلت فيها انماط انتاج ومفاهيم وتطورت وتعقدت فيها العلاقات بين الحاكم والمحكوم . لقد كان الاقرار بوجود الدولة اقدم بكثير مما يقال عن العقد الاجتماعي لجان جاك روسو حيث لم تكن وثيقة الماجناغارتا البريطانية قبل عقود طويلة الا محاولة مبكرة لتقنين العلاقة بين المواطن والوطن وبمعنى ادق بين الحاكم والمحكوم، لأنه ما من وطن مجرد او مطلق او معلّق في الفضاء بين المجرات . والالتباس الذي ساد في عالمنا العربي خلال الاعوام الاربعة العجاف الماضية كان في الخلط بين النظام السياسي والدولة برمتها، وتوهم البعض أن الدولة والنظام هما محيطا دائرة واحدة بمركز واحد، هذا الالتباس كان سببا مباشرا في الانقضاض الأعمى على متاحف ومعابد وبنوك ومؤسسات ومراكز ابحاث وغاب عن ضحايا هذا الالتباس انهم انما يعودون الى ما قبل الدولة، وبالتالي الى ما قبل القانون والعقود كلها حيث الفوضى هي البديل سواء بالمعنى الباكونيني الذي ينسب الى باكونين او بالمعنى الذي ارادته كونداليزا رايس عندما اخترعت مصطلحا غريبا هو الفوضى الخلاقة، لأنه ما من فوضى تخلق او تبدع بل هي تحذف الحدود بين الاشياء كلها، وبالطبع لن يتخلق من هذا الركام سوى الدمار والتفكيك والتلاشي، لكن رايس المتخصصة في فقه التفكيك منذ عملت مع الرئيس بوش الاب في المخابرات الامريكية، تصورت ان الوصفة النموذجية لتفكيك العملاق السوفييتي قابلة للتعريب وغاب عنها ان الروس انفسهم سخروا من مصطلح البيروسترويكا الذي يعني في لغتهم اعادة البناء واطلقوا عليه اعادة الهدم لهذا تململ الدب واستيقظ من سباته . ان كل اختطاف للدولة يكون مسبوقا بالملشنة اي تفتيت الهوية القومية الام الى كسور عشرية وعندئذ تصبح الهويات الثانوية والفرعية سواء كانت طائفية او مذهبية هي البديل، والهدف من ملشنة الدولة هو تجريدها من الصيغة التاريخية التي ساهمت قرونا واحيانا الفيات في انجازها، لهذا تكرر الالتباس ايضا حول مفهوم الدولة العميقة، بحيث اختلط الامر على معظم من تداولوا هذا المصطلح، فمنهم من اراد التعبير عن البيروقراطية المزمنة ومنهم من حدده في البعد الامني والاستخباراتي ، ملشنة الدولة هي المرادف الدقيق لتحويلها الى طرف في النزاع الاهلي، وهذا هو حجر الاساس في مشروع تفكيكها، وتجريفها وحين كتب المفكر والاكاديمي الامريكي نعوم تشومسكي قبل عقد من الزمن عن الدولة الفاشلة كان هذا المصطلح يطلق على اية دولة بلغت حدا من الهشاشة حال دون قدرتها على حماية المواطن وتسيير ديناميات الحياة، وساد يومئذ مصطلح الصّوملة نسبة الى الصومال لكن لو اعاد هذا المفكر نشر كتابه لاضاف اليه فصولا عن نماذج اخرى تخطت الصّوملة بكثير . ان ما انقذ دولا بعينها في العالم العربي من جرافات التفكيك والعودة الى ما قبل القوانين والمأسسة والتمدن هو ما تختزنه من احتياطيات تاريخية اضافة الى وعي من يحرسونها لأن الدولة اذا دمّرت وفككت، فان مستقبل شعب برمته سيصبح في مهب عواصف الفوضى المحلية اضافة الى ما يسيل من لعاب المتربصين بها واذكر للمثال فقط ان الشروع في بناء سد النهضة الاثيوبي تزامن مع احداث يناير 2011 لكن الماء كما يقال يكذّب الغطاسين، اما التقنية المستحدثة لاختطاف الدول فهي السطو على مواقع رخوة او ملغومة باثنيات يمكن تجييشها بحيث تأكل نفسها وهي آخر من يعلم . العراق لم يكن النموذج الكامل لهذا الاختطاف، لهذا جرى تكرار المحاولة لاستكمال القوس المحذوف من تلك الدائرة، ولولا نجاة مصر من الاختطاف والملشنة والتجريف الشامل لكان هذا العالم العربي اشبه ببرج بابل، امثولة في الفوضى المدمرة، والتآكل الاهلي وبالتالي تحوله الى غنائم ! ولعل العبارة البليغة التي اطلقها البابا تواضروس وهي وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن تصلح درسا لمن فضلوا زوج الام على الاب ورجّحوا هوية الطائفة على هوية الوطن ! لمزيد من مقالات خيرى منصور