وصف حيدر العبادى رئيس الوزراء العراقى - أثناء زيارته للولايات المتحدة الأسبوع الماضى - الضربات الجوية التى تقودها السعودية ضد الحوثيين فى اليمن بأنها «تفتقد إلى المنطق»، وأعرب عن مخاوفه بأن تقود العمليات العسكرية هناك إلى «صراع طائفي» واسع النطاق. هذا التصريح الذى تعرض لانتقادات من جانب المسئولين السعوديين ليس مستغربا، لأنه يعكس الانقسام الذى لم تستطع أن ترأب صدعه واشنطن بين أثنين من أصدقائها: السعودية التى ترى أن «الحوثيين» يحاربون بالوكالة لصالح تمدد النفوذ الإيرانى فى المنطقة، وتتحفظ لسنوات تجاه الهيمنة الشيعية فى العراق على حساب السنة، والعراق بقيادتها الشيعية التى تذهب إلى أن الأزمة اليمنية «داخلية»، وليس هناك «تدخل» إيرانى فيها. وبالتالى فإن ما يتحدث عنه العبادي، وربما ما يهدد به بشكل مستبطن، هو ما يحدث فعليا على أرض الواقع، وتقف واشنطن عاجزة عن ايجاد موقف موحد لدول المنطقة يدعم الأمن والاستقرار، إذ بينما تتحالف مع المليشيات الشيعية فى العراق فى حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية والذى طال الوجود السنى ذاته، تقدم دعما استخباراتيا ولوجستيا للقوات السعودية وحلفائها فى حربها ضد الحوثيين. أصبحت واشنطن، القوة العظمى ذات المصالح الكبرى فى الشرق الأوسط، عاجزة عن ضبط إيقاع العلاقات السياسية، غير قادرة على ايجاد تسوية للأزمة السورية المتفاقمة، أو ايجاد حل للقضية الفلسطينية، عاجزة أو متواطئة أو صامتة تجاه انتشار الإرهاب والتطرف، حائرة أو مناورة تجاه شيوع الصراع الطائفى من ناحية وتفريغ المشرق العربى من المسيحيين من ناحية أخرى. وبلغ الأمر إلى حد أن مسئولين خليجيين رفيعى المستوى تحدثوا عن الشك فى التزام الولاياتالمتحدة ذاتها تجاه أمن المنطقة.ومما يكشف العجز الأمريكى المناقشات الدائرة فى الكونجرس حول الاتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي، التى يرى فريق من الأعضاء أهمية أن يتضمن التزاما إيرانيا بعدم دعم الإرهاب، فى حين ترى الإدارة الأمريكية أن تمضى فى المسألة النووية منفصلة عن الإرهاب لسببين هما عدم دفع إيران نفسها للعدول عن الاتفاق الذى استغرق سنوات للوصول إليه من ناحية، والخوف من انفراط عقد الدول الأوروبية، الداعمة للاتفاق، والتى تستعد للدخول فى علاقات كثيفة مع إيران عقب رفع العقوبات المفروضة عليها. مظهر آخر من تجليات العجز الأمريكى يطرحه «إيان ليسر» مدير مركز العلاقات عبر الأطلنطى - فى ورقة سياسات مهمة صدرت منذ أيام - يتمثل فى عجز واشنطن عن الحفاظ على استقرار دول البحر المتوسط. إذ يرى أن الولاياتالمتحدة تربطها علاقات اقتصادية وسياسية وأمنية مستمرة بدول البحر المتوسط لنحو قرنين من الزمن، تتعرض الآن لأكبر تهديد لها منذ الحرب العالمية الثانية بسبب انتشار الإرهاب، والذى طال المجتمعات الأوروبية، وانخراط بعض من مواطنيها فى التنظيمات الجهادية مثل تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، ووجود حزام ضاغط من الإرهاب يمتد من وسط وغرب أفريقيا إلى شمال البحر المتوسط، وتدفق أعداد كبيرة من المهاجرين، واستمرار الفجوة فى التنمية الاقتصادية بين شمال وجنوب المتوسط، ودخول لاعبين آخرين إلى المنطقة، وبالأخص الصين وروسيا، وعدم قدرة الدول الأوروبية على تحمل مسئولية الأمن والاستقرار فى البحر المتوسط، كل ذلك ينبئ بأزمة إنسانية كبرى فى هذه المنطقة فى الفترة المقبلة. مظهر ثالث من مظاهر العجز الأمريكى ما يحدث على الساحة الأفغانية الباكستانية. كلتا الدولتين المتجاورتين أفغانستان وباكستان- فى حرب معلنة ضد الإرهاب منذ أكثر من عقد من الزمن، ولكن العلاقات بينهما حذرة، والاتهامات من «كابول» قاسية «لإسلام أباد» بدعم الإرهاب أو عدم اتخاذ مواقف حاسمة حياله. مرة أخرى تجد واشنطن نفسها بين أثنين من حلفائها فى موضع خلاف تجاه قضية مفصلية. كشفت تقارير الأسبوع الماضى أن تكثيف العمليات العسكرية الباكستانية التى بدأت فى منتصف العام الماضى فى «وزيرستان» ضد عناصر طالبان أدى إلى تدفق المئات من المقاتلين الأجانب إلى المدن الافغانية، وهو ما ينبىء بموجة من العنف بدأت تباشيرها بالهجوم على عناصر الجيش الأفغاني، وقطع رءوس الجنود، وهى ممارسة لم يسبق لعناصر «طالبان» المحلية فى افغانستان القيام بها. يأتى هذا فى الوقت الذى تشهد فيه افغانستان تدهورا غير مسبوق فى الأوضاع الأمنية منذ العام الماضي، حيث قتل وأصيب نحو عشرة آلاف من المدنيين الأفغان فى العنف الدائر فى البلاد، وهو ما يوضح طبيعة النزاع هناك الذى أصبح يطول المدنيين بشكل أكثر كثافة عقب انسحاب القوات الأمريكية وحلفائها من افغانستان. إذ تشير تقارير الأممالمتحدة إلى أن عدد القتلى والمصابين من المدنيين أرتفع إلى ما يقرب الضعف عام 2014م عما كان عليه عام 2009م. البعض يرى أن السياسات الأمريكية ترمى إلى إغراق الشرق الأوسط فى صراعات ممتدة، وتفكيك دولها وجيوشها، وإعادة رسم خرائط الجغرافيا بها، ولكن الحقيقة أن المتأمل لما يجرى فى العالم شرقا وغربا يدرك أن واشنطن باتت عاجزةعن حفظ الأمن والاستقرار فى مناطق تمثل نفوذا مباشرا لها، وهى مرحلة تجاوزت نوازع الرغبات، وتتعلق بالقدرة قبل أى شيء آخر. لمزيد من مقالات د. سامح فوزى