كانت ايران أمامى دائماً فى مراحل كثيرة من حياتى، فمنذ طفولتى المبكرة علمت من أبى الذى كان شديد الاعجاب بثورة مصدق فى ايران ، علمت منه أن هذا الاعجاب قد دفعه الى أن يختار لى اسمى من بين الأسماء الايرانية المشهورة ، ثم مرت سنوات نهلت فيها من الآداب الفارسية وبحثت سر فشل ثورة مصدق ، فى الوقت الذى كان فيه الشاه من أكبر داعمى اسرائيل فى المنطقة ، وكنت دائماً أتساءل عن سر دعم دولة اسلامية كبيرة مثل ايران لدولة عنصرية تسعى لتهويد القدس.. وشاءت ظروف عملى بعد الثورة الايرانية عام 1979 أن يقع فى اختصاصى دراسة الأوضاع فى الخليج العربى وبحث احتمالات تطورات الموقف، وكذلك دراسة أثر وفاة الخومينى المحتملة على كل ذلك.. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد ، فقد عادت ايران الى مركز اهتمامى وعملى مرة أخرى فى أواخر التسعينات من القرن الماضى، بعد انتهاء الحرب العراقية / الايرانية الممتدة ، والعواصف التى هبت فى منطقة الخليج بداية بغزو صدام للكويت وما تلا ذلك من أحداث يعرفها الكافة .. شاءت الظروف أيضاً أن تتوطد علاقاتى مع القائم بالأعمال الايرانى فى هلسنكى ، وهو دبلوماسى مهذب سبق له العمل لمدة أربع سنوات فى سفارة بلاده بالقاهرة، وأصدر كتاباً باللغة العربية عن العلاقات المصرية / الايرانية، وكنا دائماً ما نلتقى حول نقاشات ثقافية نتحدث فيها عن الشعر والأدب، وبالطبع ذكرياته عن سنوات الخدمة فى مصر ، ولكننا كنا نناقش أيضاً بعض الموضوعات المتعلقة بالمذهب الشيعى والخلافات المصرية / الايرانية . كان يتحدث بألم عن حقيقة أن مصر تحدت مشاعر كل الايرانيين بالاحتفاء بأسرة الشاه، بل ودفنه فى مقابر الملوك بمراسم امبراطورية ، قال لى : «أنه لا يفهم لماذا فعلت مصر ذلك بالايرانيين ، رغم أن ذلك الشاه لم يستخدم السافاك لقتل آلالاف من الايرانيين وتعذيبهم فى السجون فقط ، وانما كان أكبر داعم لاسرائيل التى قتلت الآلاف من المصريين ». وقد لاحظت دائماً فى حواراتى معه والتى سجلت بعضها فى مفكراتى أنه يتحاشى دائماً الحديث عن العلاقات المصرية الايرانية من منظور عربى ، فقد كان رأيه دائماً أن مصر وايران حضارتان عظيمتان ، وأن التاريخ والجغرافيا يحتمان التقاءهما ، وقد أشار مرة الى محاولة تحقيق ذلك عن طريق زواج الشاه من شقيقة الملك فاروق، على نمط ما كان يتم فى الممالك القديمة.. ومن ناحية أخرى كان من حين لآخر ينتقد بعض سياسات بلاده وخاصة تجاه بعض دول الخليج، وكنت أعتبر ما يقوله مجرد مجاملة دبلوماسية حتى فوجئت به يتصل بى ذات مساء ويطلب مقابلتى على وجه السرعة، وبالفعل التقينا فى أحد المطاعم المتناثرة على البحيرة، وكان يبدو شاحباً مرهقاً غائم العينين، لم يدخل فى مقدمات كثيرة بل همس لى مباشرة وبشكل قاطع: «لقد قررت طلب اللجوء السياسى الى فنلندا» .. والحقيقة أننى شعرت بالصدمة لأن فكرة أن يتخلى دبلوماسى عن بلاده بينما يتولى مهام عمله فى الخارج تشبه بالنسبة لى هروب الجندى من ميدان المعركة، ورغم أن العلاقات المصرية / الايرانية كانت متوترة، الا أننى حاولت بصدق وجدية أن أثنيه عن ذلك القرار، وحاولت فى ذلك بشتى الطرق بما فى ذلك تحذيره من مصير عائلته .. الخ ، الا أنه كان قد عقد العزم بشكل نهائى، والحق أن الرجل كان وطنياً محباً لبلاده، لكنه توصل الى قناعة بأن أسلوب ادارة ايران خلال حكم أحمدى نجاد سوف يدمر بلاده.. وفى صباح اليوم التالى، طيرت وكالات الأنباء خبر طلب دبلوماسى ايرانى حق اللجوء السياسى الى فنلندا.. لقد لعب شاه ايران دور شرطى الغرب فى منطقة الشرق الأوسط لسنوات طويلة، وتمكن نظامه القمعى من بناء دولة قوية معاصرة، بل ازدادت ثقة الشاه بنفسه وبقدرات دولته الى درجة أنه قام بثورة على نظامه أسماها الثورة البيضاء، ولا ينسى العالم ذلك الحفل الأسطورى الذى أقامه الشاه عام 1971 بمناسبة مرور 30 عاماً على توليه الحكم، ومن الملاحظات الهامة أنه أقام هذا الحفل فى مدينة «بريسبوليس» التاريخية العتيقة عاصمة الامبراطورية الفارسية تحت حكم داريوس الأول، وكانت الاحتفالات فارسية بامتياز فلم تكن هناك أى اشارة الى الاسلام أو دوره فى الحياة الايرانية ، لقد حرص الشاه على أن يقدم نفسه كوريث للامبراطورية الفارسية .. وفى سنوات حكمه الأخيرة تحولت ثقته الى غرور، وأصبح لا ينصت الى مستشاريه فى الداخل والخارج، وعندما سألته مراسلة «الصنداى تايمز» عن تقارير التعذيب فى سجون السافاك أجابها متبرماً «نحن لا نحتاج لدروس من أحد» .. وفى يوم 16 يناير 1979 كان الشاه ينظر لآخر مرة الى أراضى بلاده من نافذة الطائرة التى حملته الى مصيره المحتوم .. وكان نظام الملالى الجديد قد تعلم من درس فشل ثورة مصدق، لذلك قرر من اللحظة الأولى أن نجاح الثورة يتطلب اهراق الدماء، دماء أعداء الثورة وأنصارها فى نفس الوقت، وهكذا كانت المحاكم الثورية تصدر أحكاماً متتالية ومتعجلة بالأعدام ، وتصدرت صورة القاضى الجلاد حجة الاسلام خلخالى كل وسائل الأعلام.. لقد كانت الطبقة الايرانية المتوسطة هى مقدمة قوة الصدمة الحقيقية فى ثورة 1979 التى أطاحت بالشاه، وكان أغلب شباب هذه الطبقة من خريجى الجامعات الأمريكية ويتحدثون الأنجليزية بلكنة أمريكية وبطلاقة، وقد أستفادوا من «ثورة الشاه البيضاء» كما ذكرت الشهبانو فرح فى مذكراتها، الا أن تجار البازار وطبقات الملالى تمكنوا من الاحاطة بعقل الثورة منذ اليوم الأول الذى وصل فيه الخومينى الى مطار طهران.. ولازلت أتذكر ما قاله ذلك الدبلوماسى الايرانى فى هلسنكى حول حتمية التحالف المصرى الايرانى لصالح التقدم والاستقلال فى الشرق الأوسط ، ولا أنسى اضافته الذكية حين قال أن ذلك يتوقف أيضاً على نجاح الطبقة المتوسطة المتعلمة فى الوصول الى سدة الحكم فى طهران... وذلك حديث آخر ... لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق