عيار 21 يتراجع الآن لأدنى مستوياته.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم في الصاغة    بورصة الدواجن اليوم.. أسعار الفراخ والبيض اليوم الإثنين 29 أبريل 2024    انخفاض جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 29 إبريل 2024 في المصانع والأسواق    خسائر فادحة.. القوات الأوكرانية تنسحب من 3 مواقع أمام الجيش الروسي |تفاصيل    صحف السعودية| مطار الملك خالد الدولي يعلن تعطل طائرة وخروجها عن مسارها.. وبن فرحان يترأس اجتماع اللجنة الوزارية العربية بشأن غزة    أمير هشام: تصرف مصطفى شلبي أمام دريمز الغاني ساذج وحركته سيئة    بعد موقعته مع كلوب.. ليفربول يفرط في خدمات محمد صلاح مقابل هذا المبلغ    مواعيد مباريات برشلونة المتبقية في الدوري الإسباني 2023-2024    ميدو: هذا المهاجم أكثر لاعب تعرض للظلم في الزمالك    «أمطار رعدية وتقلبات جوية».. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم الإثنين في مصر    بعد وفاة والدتها.. رانيا فريد شوقي فى زيارة للسيدة نفسية    مصنعو السيارات: الاتحاد الأوروبي بحاجة لمزيد من محطات شحن المركبات الكهربائية    إصابة 13 شخصا بحالة اختناق بعد استنشاق غاز الكلور في قنا    مصرع شخص وإصابة 16 آخرين في حادث تصادم بالمنيا    علييف يبلغ بلينكن ببدء عملية ترسيم الحدود بين أذربيجان وأرمينيا    أسألكم الدعاء بالرحمة والمغفرة.. روجينا تنعى المخرج عصام الشماع    ختام فعاليات مبادرة «دوّي» بكفر الشيخ    خالد الغندور يوجه انتقادات حادة ل محمد عبد المنعم ومصطفى شلبي (فيديو)    عمره 3 أعوام.. أمن قنا ينجح في تحرير طفل خطفه جاره لطلب فدية    هيثم فاروق يوجه رسالة لحمزة المثلوثي بعد التأهل لنهائي الكونفدرالية| تفاصيل    مجتمع رقمي شامل.. نواب الشعب يكشفون أهمية مركز الحوسبة السحابية    سامي مغاوري يكشف سبب استمراره في الفن 50 عامًا    رابطة العالم الإسلامي تعرب عن بالغ قلقها جراء تصاعد التوتر في منطقة الفاشر شمال دارفور    «مسلم»: إسرائيل تسودها الصراعات الداخلية.. وهناك توافق فلسطيني لحل الأزمة    نتنياهو يعيش في رعب.. هل تصدر محكمة العدل الدولية مذكرة باعتقاله؟    شاهد صور زواج مصطفى شعبان وهدى الناظر تثير السوشيال ميديا    شقيقة الفلسطيني باسم خندقجي ل«الوطن»: أخي تعرض للتعذيب بعد ترشحه لجائزة البوكر    سامي مغاوري عن صلاح السعدني: «فنان موسوعي واستفدت من أفكاره»    بعد عامين من انطلاقه.. برلماني: الحوار الوطني خلق حالة من التلاحم    تموين الإسكندرية: توريد نحو 5427 طن قمح إلى الصوامع والشون    برلمانية: افتتاح مركز البيانات والحوسبة يؤكد اهتمام الدولة بمواكبة التقدم التكنولوجي    التهديد الإرهابي العالمي 2024.. داعش يتراجع.. واليمين المتطرف يهدد أمريكا وأوروبا    بعد طرح برومو الحلقة القادمة.. صاحبة السعادة تتصدر ترند مواقع التواصل الاجتماعي    فراس ياغى: ضغوط تمارس على الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية للوصول لهدنة في غزة    تحرك عاجل من الخطيب ضد السولية والشحات.. مدحت شلبي يكشف التفاصيل    أيمن يونس يشيد بتأهل الأهلي والزمالك.. ويحذر من صناع الفتن    إخلاء سبيل سائق سيارة الزفاف المتسبب في مصرع عروسين ومصور ب قنا    الأرصاد الجوية تكشف حالة الطقس اليوم الإثنين وتُحذر: ظاهرة جوية «خطيرة»    السفيه يواصل الهذيان :بلاش كليات تجارة وآداب وحقوق.. ومغردون : ترهات السيسي كلام مصاطب لا تصدر عن رئيس    فيديو.. سامي مغاوري: أنا اتظلمت.. وجلينا مأخدش حقه    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    هل مشروبات الطاقة تزيد جلطات القلب والمخ؟ أستاذ مخ وأعصاب يجيب    فهم حساسية العين وخطوات الوقاية الفعّالة    العناية بصحة الرموش.. وصفات طبيعية ونصائح فعّالة لتعزيز النمو والحفاظ على جمالها    «حياة كريمة».. جامعة كفر الشيخ تكرم الفريق الطبي المشارك بالقوافل الطبية    ضربة للمحتكرين.. ضبط 135 ألف عبوة سجائر مخبأة لرفع الأسعار    ربان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في مصر يحتفل بعيد الشعانين ورتبة الناهيرة    البابا ثيودروس الثاني يحتفل بأحد الشعانين في الإسكندرية    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    دعاء في جوف الليل: اللهم جُد علينا بكرمك وأنعم علينا بغفرانك    3 حالات لا يجوز فيها الإرث شرعًا.. يوضحها أمين الفتوى    وزير الاتصالات: 170 خدمة رقمية على بوابة مصر الرقمية    الاستعداد للعريس السماوي أبرز احتفالات الرهبان    بالصور.. الوادي الجديد تستقبل 120 طالبًا وطالبة من كلية آداب جامعة حلوان    مصرع شاب في انقلاب سيارة نقل بالوادي الجديد    طريقة تحضير بودينج الشوكولاتة    محمد أبو هاشم: حجاج كثر يقعون في هذا الخطأ أثناء المناسك    في أحد الشعانين.. أول قداس بكنيسة "البشارة" بسوهاج الجديدة |صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثلاثة ايام في اليمن
نشر في الأهرام اليومي يوم 10 - 04 - 2015

أحدقت بنا لا نهائية الصحراء من الجانبين فأهدت إلينا هواء منعشاً رغم حرارة يوليو. وصلنا إلى ميناء الأدبية مع المساء. تعلقت أعيننا بالسفينة الراسية عند الشاطئ حيناً ثم أخذنا سبيلنا بين صفوف من الجند وأكوام من المؤن والذخيرة.
مضى بنا المرشد إلى مركز التشهيلات. تم التعارف بيننا وبين الضابط ثم جلسنا ننتظر. إنه ليس بضابط كلا. إنه دوامة مكهربة. يحرك الجنود والموظفين بأصابعه العشرة وبحاجبيه وأنفه وشفتيه ويتكلم من خلال عشرة تليفونات. وكلما مر بنا بصره تفحصنا باسماً وهز رأسه هزة تدعو للتساؤل والفضول
- 1 -
الأديب
ها هى السيارة تنطلق والقاهرة تبتعد، تطايرت الهموم وخفقت القلوب فى طريق السويس، وقال فى صوت حنون:
- لن نفترق زهاء أسبوعين، كم تمضى أيام طويلة دون أن يرى أحدنا الآخر..
أحدقت بنا لا نهائية الصحراء من الجانبين فأهدت إلينا هواء منعشاً رغم حرارة يوليو. وصلنا إلى ميناء الأدبية مع المساء. تعلقت أعيننا بالسفينة الراسية عند الشاطئ حيناً ثم أخذنا سبيلنا بين صفوف من الجند وأكوام من المؤن والذخيرة. مضى بنا المرشد إلى مركز التشهيلات. تم التعارف بيننا وبين الضابط ثم جلسنا ننتظر. إنه ليس بضابط كلا. إنه دوامة مكهربة. يحرك الجنود والموظفين بأصابعه العشرة وبحاجبيه وأنفه وشفتيه ويتكلم من خلال عشرة تليفونات. وكلما مر بنا بصره تفحصنا باسماً وهز رأسه هزة تدعو للتساؤل والفضول. آلو.. ليتقدم حملة صناديق الذخيرة، يا عم حسنين، أنت مسئول عن توصيل البطاطس.. هات الساركى، اسمعنى يا يسرى السطح الأمامى من الدور الأول للسرية الثالثة، عليوة راجعت شهادات التطعيم؟، مرحباً بضيوفنا الأدباء مرحبا.. سمعت عبد الوهاب وهو يغنى قصيدتك يا أستاذ، انتهيتم من التيفود؟.. والكوليرا؟.. آلو.. انتهى التطعيم؟. أما مقالاتك أنت يا أستاذ فهى السحر الحلال، آلو.. أرسل شخصاً لتطعيم الأدباء..
- تم تطعيمنا ضد الكوليرا والجدرى!
- والتيفود؟
- أكدوا فى البلدية ألا ضرورة لذلك.
- التيفود مهم جداً.. دعونى أتصرف فأنا منذ الساعة مسئول عن الحركة الأدبية فى مصر..
- ولكنكم تعطون الحقن بطريقة عسكرية.. أعنى..
- يارب السماوات!.. أيخاف من الحقن أصحاب "البيداء تعرفنى" و"علو فى الحياة وفى الممات"؟!
استسلمنا. اجتزنا فترة عصيبة لم تخل من التأوهات. ولما انتهى التطعيم قال:
- انتهينا من الكوليرا والجدرى والتيفود..
ثم وهو يتصفح وجوهنا بنظرة غامضة:
- أما بقية الحميات هناك فلم يكشف الطب سرها بعد..
تبادلنا نظرات ارتياب وتوجس على حين انصرف عنا فى غير مبالاة. وجرى التهامس بيننا فى إشفاق:
- أحق ما يقول؟
- يبدو الأمر جداً.
- إذن ما معنى هذه الرحلة؟
- لننفعل بالأحداث.
- أليس من الأسلم أن ننفعل فى القاهرة؟
- وهؤلاء الجنود أليسوا بشراً مثلنا؟
- ولكنهم جنود!
- لعله يمازحنا..
وإذا به يلتفت نحونا هاتفاً:
- ستنفعلون أولاً وقبل كل شىء بالحميات المجهولة!
وضحكنا طويلاً. ضحكنا وكأننا نتسول تكذيب الظنون. ضحكات هى الأصوات المسموعة للقلق المتطاحن فى أعماقنا. ولكنه استقبل هدنة راحة فى زحمة العمل فرمقنا بنظرة جادة حقيقية لأول مرة. جادة وودودة. ثم قال بنبرة أخوية:
- أهلاً بكم، فرصة طيبة وسعيدة، وهنيئاً لكم زيارة بلد شقيق ثائر، ستجدون له مذاقاً خاصاً وجمالاً ذا سحر غير منكور، فاذهبوا بسلام آمنين..
شددنا على يده بامتنان وذهبنا وراء حقائبنا المحمولة إلى السفينة. ودعانا القبطان إلى العشاء. وطيلة الوقت ترامى إلينا غناء الجنود من سطح السفينة الأمامى، ودار حديث عن ميعاد الإبحار والجو. وأعلننا الرجل الكريم الظريف بأننا سنكون ضيوفه طوال الرحلة.
وفى أثناء ذلك اختفى من الصحاف الدجاج والشواء والملوخية والبطاطس والسلطة الخضراء والمش والبطيخ. ودعانا إلى قضاء السهرة فى جناحه المطل على البحر ثم مضى إلى عمله. أطفأنا المصباح واهبين الليل أنفسنا. أنعشنا شراب البرتقال ونسمة معبقة بجو الميناء. وما زالت أغنية تتردد متهادية إلينا من معسكر الجنود فوق مقدم السفينة.
- ترى فيم يفكرون حول بنادقهم؟
- الحرب.. إنها الحرب..
- أقدم حرفة فى الوجود.
- لكنها تنشب هذه المرة فى سبيل التحرير والحرية.
- إنها الحرب، وهى ككل حدث خطير تدفعنا إلى مواجهة لغز الوجود، وجهاً لوجه..
وتذوقنا حيناً النسمة الملاطفة. استسلمنا بكل قوانا للحظة طيبة خالية من الكدر، ثم تفرق الحديث واختلف كأنما يدور بين أجيال. وأوشك أن يستقل كل اثنين بفكرة ما.
- ستكون الحرب القادمة خاتمة الحروب!
- ولكن هل تستمر الحضارة بلا حروب؟
* * *
- الحق أن العالم مقبل على عصر عليه أن يخلق فيه كل شئ من جديد.
- وربما وجد أن عليه أن يعتاد الحياة بلا معنى ولا آمال كبيرة!
* * *
- أظنه بسكال الذى قال أننا مبحرون فى هذا العالم، ليس لنا خيار فى أمر السفر فلم يبق لنا سوى اختيار السفينة..
- ولكن كيف نختار سفينة مناسبة إذا لم يكن لدينا فكرة عن الرحلة؟
الأفكار مغلقة ولكن الأصوات راضية تند عنها غبطة المستمتع بعشاء لذيذ وشراب منعش. والغناء لا يتوقف، يحمل إلينا أنغام حماس وحنين. وثمة تساؤلات عما ينتظرنا هناك عند المأكل والمشرب والمنام. ومخاوف أوشكت أن تتضخم لولا أن ارتفع صوت قائلاً:
- ما هى إلا أيام ثم تنقضى بسلام. دعونا نشارك الجنود حياتهم ولو بدون قتال..
شعرت برغبة فى الحركة. غادرت جناح القبطان إلى السطح ماضياً حتى الشرفة المطلة على مقدم السفينة. رأيت الجنود على ضوء الكلوبات ما بين مستلقين وواقفين وجالسين. جال بصرى بينهم فى جد وانفعال. اجتاحنى طوفان من الذكريات الوطنية، حماسية وأليمة على السواء، لكنه طوفان حمل فى النهاية هذه السفينة، التى تحمل بدورها هؤلاء الجنود، ثملة بنشوة النصر والأمل، ملوحة براية الأخوة والكرامة، فأيقنت أن تاريخنا الطويل المثقل بأحلك الذكريات يتكشف عن صفحة جديدة بيضاء. وخيل إلى أن اسمى يتردد فى نداء صاعد من بين أمواج الغناء. حقاً؟! أجل أن صوتاً ينادينى. تحرك رأسى هنا وهناك حتى رأيت جندياً يشق طريقه نحو أسفل الشرفة ملوحاً بيده. أمعنت النظر فيه بدهشة. تذكرته. انحنيت من فوق السور فى غاية من الابتهاج. لوَّح لى بيده تحية فلوحت له بيدى.
الجندى
دعتنى للجلوس فجلست. توقفت عن الكتابة على الآلة الكاتبة وقالت لى مجاملة:
- شكلك ظريف فى البدلة العسكرية.
نفخنى السرور، رحب بى الزملاء القدماء فى الإدارة. على مكتبى السابق المجاور لمكتب خطيبتى جلس شاب جديد هو الذى حل محلى بعد تجنيدى، سألتنى:
- هل اعتدت الآن الهبوط بالبارشوت؟
همست فى أذنها:
- عندما أقذف بنفسى أبسمل وأتذكر وجهك فيتم الهبوط على أحسن حال.
وناقشنا بعض المشكلات التى تلابس زواجنا كالأثاث والمسكن فاتفقنا على الإقامة "مدة" فى بيت والديها وبذلك نؤجل مشكلة المسكن ونكتفى بتأثيث حجرة واحدة. وتركتها واعداً بزيارتها فى القريب فى بيتها. مضيت من فورى إلى الثكنة بمنشية البكرى. ولم أكد أمكث ساعة هناك حتى صدرت أوامر بتجهيز سفريات الميدان. تجمَّعنا فى الحال. سألت جارى عما هنالك فقال لى علمى علمك. اصطفت سريتنا الثالثة. وُزعت علينا البنادق. انتقلنا إلى السيارات فانطلقت بنا إلى هايكستب. كان ثمة قطار فى انتظارنا، وثمة حركة نشيطة لنقل الذخيرة. همست فى أذن صاحبى:
- اليمن!
هز رأسه فخيل إلىَّ أنه يوافقنى على رأيى. تحرك القطار. اجتاحنى شعور بالغربة والحيرة. لم أودع خطيبتى ولم أودع أمى. منذ عام كنت موظفاً، مجرد موظف على مكتب. وبفضل شبابى وصحتى أحببت وخطبت ثم جندت. ها هو القطار يحملنا إلى الميدان. سنهبط من الطيارات إلى ميدان حرب حقيقية.. لا تمرين ولا مناورة. يوم دعيت إلى التجنيد قال لى رئيس السكرتارية "ها أنت ذاهب.. وها هو تدريبنا لك يضيع فى الهواء.. ساء حظ الرئيس الذى يوظف شاباً قبل تجنيده بعد اليوم". كنت موضع ثقته وكنت بذلك فخوراً. أنا طول عمرى من المتوكلين على الله المعتمدين على دعاء الوالدين. والحب عجيب كالقدر نفسه فذات يوم عهد إلىَّ بتدريب موظفة جديدة. لم تكن أول فتاة أدربها فى السكرتارية ولكنها كانت الأولى فى حياتى.
سألت زميلى مرة أخرى:
- اليمن.. أليس كذلك؟
- أظن ذلك.
- متى نعرف؟
- كل آت قريب.
إذن هى الحرب. كما نراها أحياناً على شاشة السينما. وحتى فى السينما لم أشاهد معركة بارشوت إذ أننى أفضل عادة أفلامنا الغنائية. كانت الأولى فى حياتى فلم أعرف الحب قبلها بصفة جدية وقلت لها عليك بالانتباه فإن رئيس القلم يمزق أى خطاب لأقل هفوة!. ما أحلى ارتباكها إذا ارتبكت. ما أجمل نظرتها وهى ترنو إلى مدربها. وهى تستهديه المعونة والثقة فيهدى إليها قلبه ومستقبله.
وقال زميلى:
- القطار يهدئ من سرعته. ستعرف كل شىء..
وقف القطار. أكثر من صوت ردد اسم الأدبية. أجل.. أجل. غادرنا القطار. انتظمنا الصف. سرنا إلى الميناء. جرى تطعيمنا ضد الكوليرا والجدرى والتيفود. وكل حمل لوازمه ومضى نحو سفينة راسية بالميناء. تناولنا العشاء. أناس استغرقهم النوم وآخرون راحوا يغنون. الحق أننى لم أركب سفينة من قبل. لا فى البحر وفى فى النيل. بل أننى لم أر البحر قط. ولم أستطع أن أرى منه شيئاً فى الظلام.
- أين الأمواج التى يقال أنها كالجبال؟
- نحن فى الميناء يا راجل يا طيب..
لفحنى هواء لطيف فملأت صدرى ثم سألته:
- وماذا تعرف عن دوار البحر؟
فسألنى بدوره:
- لماذا لا نغنى مع من يغنون؟
تمشيت مستطلعاً. لاحت منى نظرة إلى أعلى. رأيت على ضوء كلوب وجهاً ينظر إلىَّ أو بدا كذلك. من؟!، أستاذى القديم. أستاذى بمدرسة مكارم الأخلاق الإعدادية بشبرا. هو دون غيره. ترى ماذا جاء به إلى سفينتنا.. وجعلت أنادى وألوح بيدى وأنا أشق طريقى بين البنادق والنيام. وأخيراً عرفنى فلوح لى بيده. التقينا عند منتصف السلم تماماً فتصافحنا بحرارة.
- انت جندى؟!.. ما تصورت ذلك.
- جندى منذ عام فتركت وظيفتى إلى حين.
- متزوج؟
- كلا ولكنى خاطب.
- مبارك (ثم وهو يتفحص ملابسى) لا أعرف لغة ملابسكم.
- من قوة المظلات يا فندم.
- فرصة طيبة، أتمنى لك حظاً سعيداً.
- وماذا جاء بك يا أستاذى؟
- رحلة.. زيارة.. فى ضيافة الجيش.
- أهلاً أهلاً.. إنى أقرأ مقالاتك.. هل تركت التعليم؟
- نعم.
وتصافحنا مرة أخرى وهو يقول:
- أرجو أن أراك كثيراً.
انفصلنا. عدت إلى مقدم السفينة وصعد إلى السطح.
- 2 -
الأديب
أخيرا تراءت لنا ميناء الحديدة.
تهادت سفينتنا فى الممر المائى الذى شقه الروس فى الصخر. عقب رحلة طويلة أذابتنا فيها الحرارة وأنهكتنا الأحاديث. فوق سطح بحر كظيم صامت، تحت سماء باهتة تترامى فى الآفاق بلا تعبير، بين جماعات متواثبة من الدرافيل. لا تسلية لنا إلا الكلام والسجائر والذكريات ولا عمل لنا إلا الاستحمام وتجفيف العرق.
أخيراً تراءت لنا ميناء الحديدة.
تطلعنا بشغف نحو الأرض التى ظلت دهراً طويلاً متقوقعة، حتى ثارت ثورتها فحطمت القشرة الصلبة التى تحبسها فيما وراء التاريخ.
- تذكروا أن وطننا تلقى موجات فى أثر موجات من مهاجرى هذا البلد!
- لا يبعد أن نصادف أجداداً وأصولاً ونحن لا ندرى.
قلبت وجهى فى مجموعتنا فرأيت وجوهاً تشى بأكثر من أصل تتراوح جذورها ما بين البلقان والسودان ماراً بالشام ومصر. قلت لنفسى أن أضمن وأعرق أصل للإنسان هو الأرض.
* * *
استقبلنا مندوبا القيادتين العربية واليمنية. انتقلنا إلى مركز قائد الميناء حيث قدمت لنا المرطبات. قائد ضخم كتمثال، وطراز من الرجال يضيف أصلاً جديداً إلى مجموعتنا المتعددة الأصول. دعانا لمشاهدة خريطة لليمن.
- أرض مجهولة لا يعرفها إلا المرشدون..
انتقل المؤشر من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.
- جميع هذه المدن ثائرة وموالية أما الجبال فلا تخلو من جيوب!
- اعتقدنا أن الحرب قد انتهت.
- هى كذلك بالمعنى العسكرى ولكن علينا أن نطهر الجبال من المتسللين!
دعانا إلى جولة فى المدينة. زرنا المستشفى. تجولنا فى أحياء ردتنا بقدرة قادر إلى أزقة القاهرة وحاراتها القديمة. شاهدنا دكاكين حافلة بسلع من جميع أنحاء المعمورة. طالعتنا وجوه صامتة مغلقة غامضة، لا ينظرون نحونا، وإذا نظروا لم يرونا.
- يا حضرة القائد.. أهم يكرهوننا؟
- كلا يا أستاذ ولكننا فى عز وقت التخزين!
أجل.. إنه القات!. الدنيا تنساب فى حلم كبير يرفرف فوق المدينة ولم نعد إلا أشباحاً لا حقيقة لها. وثمة تاجر مستلق على أريكة أمام دكان سأله القائد عن مكان ما ولكنه لم يبد حراكاً ولم ينبس بكلمة.. ما فعل إلا أن رفع يده ببطء شديد مشيراً نحو المكان كأنما هى صورة متحركة مصورة بالتصوير البطئ، أما ظاهر الرجل اليمنى فيتلخص فى لحية وخنجر وبندقية. والتجول بين الحوانيت مثير للغاية. وكان مدعاة للتساؤل عن بدل السفر ومتى يصل. وقال القائد:
- ستجدون فى صنعاء سلعاً أطرف وأجمل. أما تعز فحدث عنها..
ولفتت الأنظار الحقائب والأقمشة، ثم احتكرتها الهرمونات والمقويات. وتسلل من القائد إلى النفوس أعجاب ودود. تضاعف عندما دعانا إلى العشاء فى مقر القيادة اليمنية. اجتمعنا هناك بكهول وشبان من اليمن، منهم من يرتدى البدلة ومنهم من يرتدى الزى الوطنى. تبادلنا الأحاديث عن الحرب والثورة والتاريخ والأدب. كشفت الروح اليمنية عن كنوزها فاستعدنا شعورنا بالأنس والألفة وتفتحت قلوبنا بلا حدود. وملت نحو زميل هامساً:
- أشعر كأنما رأيت هذا المكان من قبل!
فرد علىَّ هازئاً:
- هذه نتيجة عقدة نفسية سأحدثك عنها فيما بعد.
وصُفت الموائد حول بركة كانت مسبحاً للجوارى ذات يوم. وعزفت لنا جوقة موسيقية وغنى لنا مهرج الإمام. وقال لنا القائد ونحن عائدون:
- ستبيتون الليلة فى الباخرة وغداً صباحاً تذهبون إلى صنعاء..
وتساءلنا عن وسيلة المواصلات فقال:
- ثمة طريق جديدة شقها الصينيون فى الجبل، تقطعها السيارة فى ثمانى ساعات، وسوف ترافقكم قوة مسلحة..
ولدى سماع هذه العبارة الأخيرة ساورنا القلق، وسأله سائل:
- وما الداعى لمرافقة القوة المسلحة لنا؟
فأجاب موارياً ابتسامة:
- تعرضت الطريق لهجمة عدوانية فاشلة منذ أسابيع! وأكثر من صوت قال فى نفس واحد:
- حدثنا يا قائد عن وسيلة مواصلات أخرى.
فضحك ضحكة عظيمة وقال:
- ستأخذون الطيارة وستصل بكم فى ساعة أو أقل.
عدنا إلى الباخرة. سهرنا فى جناح القبطان فى جو حار رطب خرق المألوف لنا. ولما آويت آخر الليل إلى القمرة قلت لزميلى فيها:
- أشعر من الحر والرطوبة بأننى سأموت عما قليل.
فأجابنى بصوت ملؤه النعاس:
- لكل أجل كتاب!
الجندى
السفينة تقترب من الشاطئ. جمهور ضخم ينتظرنا. ولكن أى جمهور؟!. نساء!. أجل نساء لا حصر لهن فى أزياء مزخرفة بالحمرة والزرقة. ما الذى أخرجهن من البيوت؟. وفى لهفة حزم كل جندى متاعه وعدته وحمل بندقيته. ورأينا ضيوفنا من الأدباء وهم يهبطون وراء حقائبهم. وبحثت عيناى عن أستاذى السابق حتى رأيته. وددت أن أودعه ولكن الزحام والنظام حالا دون ذلك. وصدرت لنا الأوامر بالنزول فسرنا نحو السلم فى ترتيب عسكرى. ها أنا أستقبل بلداً غريباً بعد أن ركبت السفينة لأول مرة. وفوق الأرض تكشفت لى حقيقة المتجمهرين. إنهم رجال لا نساء كما توهمت من بعيد. يرتدون لباساً كالجونلة ويطلقون اللحى. تنغص حماسى وفتر فرحت أتمشى فوق رصيف الميناء. وتذكرت أمى التى لم أودعها. وتذكرت خطيبتى التى زرتها ولم أودعها أيضاً. وقلت لو أننى ودعت أمى لتلقيت من دعواتها ما ينفعنى. ونودى علينا فهرعنا إلى الصف. ثم اتجهنا إلى سيارات معدة لتوصيلنا إلى صنعاء. وخرجت السيارات من حارات متربة حتى اجتزنا بوابة كبيرة. وإذا بنا ندخل فى طريق ممهدة. تأخذنا فى الارتفاع كلما تقدمنا. وسألت زميلى:
- أين مملكة سبأ؟
فسألنى بدوره دون اهتمام بسؤالى:
- أنحن ذاهبون إلى الميدان؟
وجذبت الجبال المتشابكة عينى. ألقيت بنظرة إلى أسفل فأدركت مدى الارتفاع الذى نصعد إليه بلا توقف. ومضت الحرارة تخف والجو يلطف والدنيا تتغير. وتساءلنا حتى متى نواصل الصعود فأجاب دليلنا اليمنى:
- سنصعد فوق الجبل.
لا فرق بين السيارة والطيارة فى هذا البلد. ودار بنا طريق دائرى فتطالعنا الشمس المائلة حيناً وتغيب عنا حيناً آخر. وبهرنا السحاب وهو يزحف نحونا حتى روعنا. ودخلنا فيه فغاب الوجود وبتنا من أهل السماء. حتى أنفسنا غابت عنا. وارتفعت الأصوات وتبادلنا الألقاب الضاحكة. ولما خرجنا من السحاب استوى الجبل إلى يسارنا على هيئة مدرجات تكسوها الخضرة المتألقة فهتفنا فى دهشة. لم أكن رأيت من الجبال إلا المقطم فيما وراء مسجد الحسين رضى الله عنه فتلوت فاتحة الكتاب. أما إلى اليمين فينحدر الجبل صانعاً مدرجات واسعة من السهول تنبت فى جنباتها القرى، وتتناثر الأكواخ، وتهيم القطعان والأطفال، من تحتها خضرة ومن فوقها قطع من السحب متفاوتة الشفافية تتلاقى فى احتدام وتنتشر كقبة هائلة ثم تلاطم سفح الجبل تحتنا فتفور كالأبخرة، وها نحن ننطلق فوق السحاب كأنما تقلنا اليوشن المظلات. قال الزميل:
- ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
فقلت بوجد:
- صدق الله العظيم.
قبيل الغروب اجتزنا بوابة صنعاء. وعلمنا أننا ذاهبون إلى كلية الطيران للمبيت فاستبشرنا خيراً ومنينا أنفسنا بليلة نوم ناعمة. غادرنا السيارات ومضينا نحو الكلية دون أن نتبين المبنى من الخارج لغلبة الظلام على الدنيا. ولكننا وجدنا أنفسنا فى مكان هو أشبه ما يكون بالاصطبل. لا مقعد ولا فراش ولا حتى حصيرة. وقفنا ذاهلين نتبادل النظرات. وأمرنا أن ننام كيفما كان الحال حتى الصباح. نمنا ليلتنا على الأرض بكامل ملابسنا. وفى الصباح صدرت أوامر بأن ننشئ معسكراً حول مطار صنعاء فانهمكنا فى العمل. ولم يكن بين أيدينا من الطعام إلا القليل ومن الماء إلا النادر. وندرة الماء أزعجتنا بصفة خاصة. ونمنا ليلتنا فى المعسكر. وفى الصباح صدرت الأوامر بالتوجه إلى مدينة عمران. خرجنا من بوابة صنعاء الخلفية. وترامى أمامنا طريق صخرى ينتقل بين جبال عاتية. إنى أغوص فى المجاهل. أصبح الماضى بعيداً جداً. ترى هل علمت أمى بأمرى وهل علمت به خطيبتى؟. إنهما أعز ما يشدنى إلى عالمى القديم. أما العالم الصخرى المكفهر المترامى أمامى فلا أدرى شيئاً عما يخبئ لى من أقدار الغيب. ورأيت عن بعد سيارة مدرعة تقود قافلتنا فتطلعت نحوها بثقة ولكنى قلت لنفسى أن الله وحده يحفظنا ويرعانا.
- كل شئ غريب هنا.
- وقافلتنا العسكرية تسير كما كنا نشاهد فى السينما.
- ولكن الفرجة شىد وخوض المعارك شىء آخر.
- لا يوجد إنسى.
- ولا جان!
وأخيراً تراءت لنا عن بعد بوابة حجرية تقود على مبعدة منها إلى اليسار قلعة ذات أسوار وأبراج للمراقبة. تبودلت كلمات لم نسمعها بين السيارة المدرعة ورجال الأبراج فتح على أثرها باب البوابة فتهادت منه قافلتنا.
- مدينة عمران.
- أجل لعلنا نجد مقهى أو ملهى.
وجدنا قرية كقرانا فى الريف. تقع وسط سهل ومراعى تطوقها سلسلة من الجبال الصخرية من ثلاث جهات.
- مدينة عمران
- مدينة عمران!
غادرنا السيارات. تناولنا الطعام من العلب وشربنا بحيطة وحذر. أحاط بنا الغلمان والأطفال شبه عرايا. حملقوا فى وجوهنا بأعين داهشة ثم تبادلنا الابتسام. ومرح الأطفال حول السيارات وتحتها. رغم البؤس أطل علينا من الأعين البريئة جمال فطرى ونظرات ذكية. ترى من هؤلاء تربطنى به صلة قربى ترجع فى تاريخها إلى ألف عام؟.
لم نمكث فى عمران إلا ساعات ثم صدرت الأوامر بالذهاب إلى حجة. تحركت القافلة دون أن تترك وراءها ذكريات. دخلنا فى السحاب مرة أخرى حتى غاب عنا كل شىء. وندت أصوات متفرقة فى المسيرة الطويلة.
- أهى أرض عدوة أم صديقة؟
- ربما انهال علينا المطر أو الرصاص.
- قريب من هنا هبط سيدنا آدم إلى الأرض.
تلوت الفاتحة والصمدية. ولما انجاب السحاب عنا ترامى أمامنا الطريق الصخرى مرة أخرى. ثم انفسح فيما يشبه الدلتا عن أرض رملية تغطى الحشائش بعض رقعات منها متباعدة. وتوقفت القافلة فجأة فاشرأبت القلوب. دارت السيارة المدرعة فى حركة مناورة. وجرى التهامس من سيارة إلى أخرى كمين.. كمين. تناولنا البنادق فى حركة استعداد. برز علم أبيض من وراء أكياس الرمل المطوقة للكمين. خرج جندى يمنى ملوحاً ومرحباً. نزل إليه من السيارة المدرعة ضابط فتصافحا. زار الكمين ثم عاد إلى السيارة. دخلنا حجة، القرية الجديدة، ياللقرى! إن قلبى يحلم بشئ لا يتحقق. التقينا بجنود مصريين من المشاة. تفرقنا فى الخلاء والشمس على وشك المغيب. الجو مائل للبرودة كأيام الخريف يا مصر.
- جنود مظلات؟
- نعم.
- صرواح!
- صرواح؟
- هبط الجنود فى واد ضيق تكتنفه الجبال.
فى صرواح؟
- نعم.. ثم انهال عليهم الرصاص من الجبال!
- فى أى وقت؟.
- الفجر.
- وقت يسهل فيه الاختفاء، هل وقع ضحايا كثيرون؟
- غير قليلين ولكنهم طهروا المنطقة..
- ليرحم الله الشهداء.
بلد كأنه شبكة من الجبال المتقاطعة. من كان يتصور ذلك؟!. كحارات خان الخليلى، كحجرة جحا، كالتعليمات المالية والإدارية. السحاب يركض وعما قليل تختفى السماء. وقيل أن المطر سينهمر. وارتفع النداء داعياً إلى إقامة المعسكر.
- 3 -
الأديب
استيقظت بعد نوم ساعتين. غادرنا السفينة إلى مطار الحديدة. اتخذنا مجالسنا فى طيارة اليوشن ناقلة للجنود. سنرى اليمن من فوق. صحراء وجبال ومراع. أما المنظر الجديد حقاً فهو منظر الوديان الخضراء فى سفح الجبل. وقال أحدنا للمرافق لنا:
- الجبال عالية جداً!
- وتنطلق الطيارة بحذاء بعض القمم أحياناً.
- لو أن عدواً ربض فوق جبل فلن يتعذر عليه إصابة الطيارة بالبندقية العادية.
فضحك قائلاً:
- ولا يخلو بعض طياراتنا من آثار عديدة للرصاص..
ولما رأى وجومنا استطرد:
- لا تزيد نسبة الإصابة القاتلة على واحد فى الألف..
أسلمت ناظرى إلى الجبال تحتنا. القرى الخضراء والفجاج الملتوية. حتى لاحت صنعاء. من الجو بدت مدينة عمران ومجمع أحياء ومقر قباب ومآذن. وعندما حملتنا السيارة من المطار إلى الفندق خاضت بنا زمناً موغلاً فى القدم. وتراصت على جوانب الطرقات المتربة بيوت غريبة مزركشة. زركشتها أيدى أطفال فنسجتها من خيوط الأحلام وألقت بها فى قلب مدينة سحرية. انشق سطح الأرض عن دنيا عابرة تطوف بها القلانس والوزرات والخناجر والبنادق واللحى. لفحتنا غربة، لاطفتنا نسمة، تجاذبنا عواطف مبهمة، ثم لذنا أخيراً بأطيب المشاعر البشرية التى جئنا بها. وفى الفندق ارتددنا إلى ذكريات الطفولة، درجات السلم العالية، رائحة الكلس العطنة، الأسقف العالية. فندق قديم كقلعة بالية يديره غلام ذكى. جلسنا على الأسرة فى عنبر جمعنا. وتبادلنا أحاديث لا نهاية لها. وإذا بالغلام يجلس على كرسى عند باب العنبر بلا استئذان. جعل يقلب عينيه اللماحتين فينا بهدوء عجيب. ولما تركزت الأبصار عليه قال:
- أنتم مصريون؟
- نعم يا أخا اليمن..
- أتريدون فطوراً؟.. عندى بيض من اليمن وفول من مصر ومربة من أوروبا..
- أأنت صاحب الفندق؟
- ابن صاحبه ولكنى مديره.
- كم عمرك؟
- اثنا عشر عاماً.
- إذا غالطناك فى الحساب؟
- إنى أغالط الجن.
- عفارم عليك، وما رأيك فى الثورة؟
- كلنا متجمهرون وثوار واللعنة على الأعداء..
ودخل رجل غامق السمرة مترنح المشية، يرتدى بدلة ويطالعنا بنظرة مسطولة من عينين جاحظتين. قدمه الغلام باعتباره عمه ثم ذهب تأدباً. وقال الرجل أنه من عدن ولكنه فى الأصل يمنى، وأنه شريك فى ملكية الفندق. وجلس على الكرسى الذى أخلاه الغلام.
- حضرتك مقيت؟
- كلا.
- مسطول؟
فضحك وأجاب بالنفى. سرعان ما أغرانا مظهره بممازحته فأثبت أنه أوسع صدراً مما تصورنا.
- إن كنت حقاً من عدن فهل تعرف لغة أجنبية؟
- عشت فى عدن ومصر وسوريا وانجلترا وفرنسا..
- هل تستعمل القات؟
- كلا فإنه يضعف القوة الجنسية.
- إذن فأنت حريص على قوتك الجنسية؟
- إن قرة عينى فى التجارة والفسق!
ضحكنا طويلاً. وانطلق يتكلم على الفسق فى شتى أشكاله وألوانه ومتناقضاته، وعقد مقارنات عنه فى البلاد التى عاش بها ولكى يقيم الدليل لنا على صحة مراجعه حدثنا عن مصر حديث العارف الدائر، حتى قال له شيخنا:
- إنك معجم فسق البلدان!
غادرنا الفندق لزيارة القائد العام ورئيس الجمهورية. طفنا بمخازن الإمام وبيت الرهائن ثم شهدنا فى المساء ندوة أدبية بالقصر الجمهورى. وقابلنا بعض الموظفين المصريين المنتدبين لعمل ميزانية الجمهورية اليمنية وإقامة نظام مالى كأساس لحياتها الاقتصادية. وقد دعونى لزيارة جناحهم فى القصر فذهبت معهم وأنا أداعبهم قائلاً:
- إذن فأنتم أول من بشَّر بالروتين فى أرض اليمن.
وجلسنا نتحدث وأصوات الشعراء فى الندوة تترامى إلينا. وقال أحدهم:
- لقد أغلقت اليمن الأبواب على نفسها ألف سنة فلم يختف منها الشعر ولكن المشكلة الحقيقة هى متى يغزوها العلم؟
الجندى
على السرية الأولى أن تستعد وتتجهز بأدوات الميدان. شملتنا حركة نشاط متدفقة وعصبية.
- لماذا؟
- للقفز فى مدينة صعدا.
أُمِرت أن أذهب مندوباً عن ف2 للتعيين. ذهبت إلى مركز التعيين. تسلمت مجموعة كافية من الفانلات والكلسونات وطواقى صوف وجرابات وأحذية وعلب سردين وبلوبيف. إلى صعدا. وما صعدا؟. مدينة أم قرية. غزو أم إمداد؟. لن يكون القفز هذه المرة فى ميدان تدريب كالمرات السابقة.
- لندع الله أن تكون صعدا خيراً من صرواح.
هتفت مقطباً لأتمالك أعصابى:
- الأعمار بيد الله.
- معى أربعة وعشرون ريالاً وهى ثقيلة.
- لفها حول وسطك كما فعلت.
ذهبنا إلى مبنى المطار لتسلم المظلات. أخذت مظلة أساسية بدون احتياطى. ليكن طريقاً سهلاً آمناً حتى نهبط فوق الأرض. لبست ما يلزمنى فى الحرب من بدلة مموهة وبدلة اسموكس فوق بدلة كاكى قفز والخوذة والبندقية وحقيبة خزن ومحفظة قنابل وحقيبة الجراية وبها ذخيرة ومطواة. وانهمكت فى إعداد أشرطة المظلة. وإذا بيد تساعدنى. رفعت رأسى فرأيت زميلى بمدرسة مكارم الأخلاق بشبرا. تعانقنا. عانقت فيه مصر وأهلها.
- سأكون معك فى الطيارة.
- جان مستر؟
- نعم وسأساعدك على القفز.
- أشكرك، هل تتذكر شبرا؟
فضحك ويداه لا تكفان عن مساعدتى. وقبل أن أسترسل فى الذكريات دعينا إلى طابور. استعرضنا القائد العام وقائد المظلات. وكان القائد يقف أمام كل جندى ويسأله:
- ألك أى طلبات؟
رأيته لأول مرة عن قرب. ذكرنى وجهه بوجه ستالين. وسرحت رغماً عنى فلما عدت إلى الحاضر سمعته وهو يعطى إرشادات عن المنطقة. واصطفت الفصيلة أمام طائرة اليوشن رقم 14، الضابط أول الأستك يمين وأنا آخر الأستك شمال. وهذا يعنى أننى سأكون أول القافزين. ولكن ألا يستوى الأول والأخير أمام القدر؟. وصعدنا إلى الطيارة واحداً فى أثر واحد. بدأت محركات الطائرة تدور. كان معنا اثنان من جان مستر الذين يساعدون على القفز. وانطلقت الطيارة فلم تتحول أفكارى عن مصر. ولما استوينا فوق السحاب أشعلت سيجارة. ظلت أفكارى منغرسة فى مصر. النيل والخضرة والأم والفتاة. ولمحت طائرات تطير إلى جانبنا. وإذا بجرس النور الأحمر يدق معلناً وصول الطائرة إلى صعدا. وظهر النور الأخضر داعياً إلى القفز فى الحال.
- ستهبطون فى منطقة إسقاط بالمطار، توجد طائرة بيضاء فى وسط المطار، على كل فرد أن يتجه إليها..
تقدمت من باب الطائرة. توثبت للقفز بقلب خافق. دفعنى الزميل القديم بشدة ليبعدنى عن جسم الطائرة. لم أنتبه لنفسى إلا وحبال المظلة تشدنى فى الجو. نظرت إلى أعلى فرأيت المظلة مفتوحة بيد أن حبالها التفت حول بعضها البعض. درت حول نفسى بسرعة فائقة حتى استقامت الحبال. مضيت أهبط فى الظلام وحركة انسيابية هادئة تسرى فى أعصابى وأنا فى غاية من اليقظة والترقب. ولمحت شبح جبل غير بعيد، ما لبثت أن صرت فى كنفه، وجعل يرتفع كلما أمعنت فى الهبوط. اخترقت أذنى أصوات طلقات نارية. اجتاحنى القلق وشدت يدى على الحبال. ضرعت إلى الظلام أن يخفينى عن أعين الصائدين وأنا أتوقع رصاصة تصيبنى فى أى لحظة. انتهت الرحلة التى اعتبرها أطول رحلة فى حياتى فاصطدمت بالأرض صدمة شديدة ورحت أتدحرج منقلباً على نفسى مرات حتى استقر بى المكان. غرزت ركبتى على أرض معشوشبة مصمماً على النجاة. فتحت قفل المظلة فأخليتها بسرعة ثم انبطحت على بطنى. وبحذر شديد تخللت الظلام بعينى. وإذا بى أجد شبحاً على مقربة منى فسددت نحوه بندقيتى فى ذات الوقت الذى صاح بى "يا أخى المصرى.. أنا من الحرس الوطنى" أنهضنى وهو يعانقنى. حدثته عن الطلقات النارية فأكد لى أن الجبل بعيد نسبياً. نظرت حولى فميزت مجاميع من أشجار التين الشوكى. انطلقت فى الجو إشارة خضراء فمضينا نحوها، وانضممت مرة أخرى إلى السرية. نادى الضابط علينا فتبين غياب اثنين من السرية.
- أصيبا؟
- أو هبطا فى أرض العدو.
لاحظت وجود جنود من غير سريتنا. وعلمت أن ثمة قوة سبقتنا إلى هنا ولكنها حوصرت فطلبت نجدة فأرسلنا إليها من السماء. ولم يكن بصعدا أحد سوى الجنود. ولم نسترح دقيقة فتوزعنا فى أماكن من السور المحيط بالبلد وسرعان ما اشتركنا فى إطلاق النار. واستمر الضرب من ناحيتنا حتى توقف الضرب الآتى من الناحية الأخرى.
وصدر أمر بالاستعداد للهجوم على الجبل الأسود المطوق لجانب كبير للمدينة. حصل تجمع لا أعرف مداه. وترامى إلينا أزيز طياراتنا وهى تهاجم الجبل وترميه بقنابلها. تواصل الضرب ساعة ثم صدر الأمر بالتحرك. تقدم سريتنا ضابط حاملاً مدفعاً رشاشاً فتبعناه فى حركة انتشار. تقدم الضابط لنا بث فينا روحاً عالياً فأخذنا فى الصعود ونحن نطلق النار وقد شعشع ضوء النهار الباكر. وتساقط رذاذ فى أثناء تقدمنا ثم لم يلبث أن انهمر المطر. وصوت صاح:
- يجب أن نصعد قبل أن تعيقنا السيول.
الحق أزعجنا المطر وتسلل منا إلى الأجساد على حين غاصت أقدامنا فى الوحل. لم نكف عن الضرب حتى كف العدو عنه مما يقطع بتقهقره. ومضينا فى صعود عسير تكاد تجرفنا السيول حتى بلغنا القمة. أعلن الضابط احتلال الجبل. تسلينا دقائق بمشاهدة آثار قنابل الطائرات.
تلقينا أنباء عن فقد شهداء منهم ثلاثة من المجموعة التى استقلت معى الطيارة رقم 14. تذكرت وجوههم بخاصة أحدهم الذى كان يحدثنا فى أوقات الفراغ بالفصحى متفكهاً.
- ماذا يصنعون بالجثث؟
فسمعت إجابة مقتضبة لا تخلو من أسى:
- يدفنونها!
ولكن الميت يظل حياً فى وجدان أهله بمصر حتى يبلغهم خبره. وفكرت فى مصر. بكل وجدانى الحزين. من فوق قمة الجبل الأسود وتحت سيل من المطر المنهمر فكرت فيك يا مصر. وسمعت نداء باسمى. وقفنا ثلاثة أمام الضابط:
- كونوا نقطة إنذار على بعد كيلو ونصف.
حددنا الموضع بالقياس الدقيق. حفرنا حفرة سرعان ما امتلأت بمياه المطر. غصنا فيه حتى الرقاب ومعنا جهاز لاسلكى صغير R/60.
- راقبوا جيداً وعند أى اشتباه نبلغه ثم ننسحب فى ثوان قبل إطلاق النار.
- قد يلمحنا العدو ونحن ننسحب.
- أى تأخير معناه الموت بقنابل جنودنا!
اختص كل منا بناحية والمطر يكاد يجرفنا.
- لكن الجبل طُهِّرَ، أليس كذلك.
- الزم الصمت..
ركزت عينى فى المراقبة والمطر ينهل بغزارة وقوة لم أتخيلها من قبل.
- 4 -
الأديب
غادرنا صنعاء بالطيارة إلى مأرب. من المطار استقللنا سيارة روسى فى حجم لورى متوسط، فى مقدمتها مدفع، لتحملنا إلى القلعة والآثار. قطعت بنا طريقاً وعرة متلاحقة العقبات. وكانت فى هندستها مرونة لتواجه بها المرتفعات والمنخفضات ولكن لم يكن بنا مثل مرونتها. تأرجحنا بقوة وتصادمنا فخففنا البلوى بالفكاهة ما أمكن. اخترقنا أرضاً فضاء إلى ما لا نهاية، قاحلة جرداء، إلا من نباتات شوكية موسومة بطابع الهلاك والفناء.
- مكان الجنتين خال!
- أجل. أين العمران والخضرة أين!
- وجه الأرض يتغير كوجه الإنسان.
- لقد كان لسبأ فى مسكنهم آية جنتان.
- فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم.
زرنا الآثار القليلة الباقية. عرش سبأ ومقاعد مجلس الحاشية. تكشف عنها وجه الأرض ثم تركت وحيدة وسط يباب يكتنفها من جميع الجهات. وقفنا ننعم النظر وثارت رومانسية الشعراء ولكن ماذا يعنى أى أثر لقوم آتين من بلاد الآثار.
وذهبنا إلى القلعة. وجدنا حامية مصرية معزولة عن العالم بآلاف السنين. حفروا بئراً ليشربوا، وأقاموا فرناً ليخبزوا، وبدوا كأسرة مستقلة مكتفية بذاتها ضائعة فى الفراغ. قابلونا بمرح وقدموا لنا الشاى. ولم يكن يصلهم بالدنيا إلا راديو وبعض أفلام قصيرة عن مصر. وأشاروا إلى مدينة صامتة مقامة فوق هضبة، مدينة غارقة فى الجمود والصمت.
- مدينة مهجورة، هجرها أهلوها فى أثناء المعارك.
ميتة لا حركة فيها ولا صوت ولا خيال لحى. كانت مقاماً للأشراف، وخارج أسوارها عاش الرعاة.
- ثمة مفاوضات، معهم وسوف يعودون.
- يا له من منظر، منظر المدينة الخالية. حتى المقابر توحى بطريقة ما بالراقدين داخلها.
- وكيف حال مصر؟
- عال، قلوبها تخفق معكم.
- وكيف حال الأدب؟
وضحكنا. وفى أثناء ذلك جاءونا بنسخ من كتبنا تهرأت من كثرة التداول.
- أنتم لا تتصورون مدى الأثر الذى يحفره فى نفوسنا قراءة بضعة أسطر عن وصف مكان أو عادة أو زمان فى مصر.
حقاً لا يمكن أن نتصور. وقال أحدنا:
- ولكن عددكم قليل ومراكز المراقبة معدودة؟
- لا يهم.. أصبحت المنطقة موالية..
تخيلت نفسى مقيماً فى هذا الخلاء. يوماً بعد يوم، بلا عمل ولا تسلية. وكلما تخيلت عجبت للمرح البسيط الصادق الذى يطالعنا فى الوجوه. وغزانى شعور بالأكبار لا يقاوم.
رجعنا إلى اللورى الروسى. كابدنا الطريق فى الإياب كما كابدناه فى الذهاب. عدنا إلى صنعاء. دعينا إلى زيارة مندوب الحكومة المصرية. جلسنا فى بهو استقبال فخم وشربنا المرطبات وتكلم أهل العلم عن مستقبل اليمن الواعد بكل خير. عن الشباب الثائر المؤمن بالتقدم. عن التأخر الأسيف المتراكم من أبعد العصور. إيمان المسئولين اليمنيين بوجوب سير الإصلاح جنباً إلى جنب مع الحرب ودون تأجيل. ولدى عودتنا إلى الفندق وجدنا فى انتظارنا وفداً من الأدباء الثائرين. جالسونا على الأسرة فشرق بنا الحديث وغرب. وكان لكل منهم مغامرة مع الإمام فراح يروى مغامرته.
الجندى
غادرنا الجبل على أثر قدوم قوة من المشاة لتحتله. نمت نوماً عميقاً فى المعسكر. فى الصباح منحنا عطلة قصيرة فقصدت قرية غراز. سرت فى طرقاتها الضيقة فاستقبلنى أهلها ببسمات إنسانية كنت فى نهم إليها. لاعبت الأطفال حيثما وجدتهم. وشربت القهوة فى مقهى ريفى كالكوخ. أذهلنى جمال النساء. جمال العيون بصفة خاصة يبعث الدفء فى القلوب التى أذابها المطر. صادفت فى تجوالى بئراً وقفت حولها أم وابنتاها يملأن الجرار. تلكأت عندهن فنظرت إلى الأم بحنان ذكرنى بأمى التى لم أودعها.
- مصرى؟
- نعم يا خالة.
- يخليك لأمك.
سررت وابتسمت الفتاتان. اجتاحنى شعور عائلى وتذكرت قريتنا باسطنها. قلت:
- نحن نحبكم.
وإذا بصوت عال يقول فى غير جدية:
- ما شاء الله!
أديت التحية للضابط فقال مقطباً:
- ماذا تفعل؟.. ألا تعرف التعليمات؟
وابتعدت من فورى والمرأة تقول له شبه غاضبة:
- أفزعته يا رجل!
عند الظهر صدرت الأوامر بالتحرك إلى قرية البيضا على بعد ثلاثة كيلومترات من صعدا. ولدى مشارف الموقع الجديد هاجمناه على شكل كماشة تتقدمنا ثلاث عربات مدرعة. وثار الضرب من الجانبين كأعنف ما يكون. اشتد الضرب علينا بغزارة وشت بضخامة القوة التى تتصدى لنا. انطلق الرصاص من مركز المراقبة، من أسوار القلعة، ومن أكثر من كمين، انفجرت قنابل وراءنا وبين صفوفنا. وصدر الأمر بالانسحاب ونحن نقاتل. انحسبنا مقاتلين بعنف. انغرزت إحدى سياراتنا المدرعة فى حفرة وتعذر عليها المسير. انهمر عليها الرصاص كالمطر فلم يجرؤ أحد ممن فيها على رفع رأسه وتوقف الدفاع. أحاط بها العدو من كل جانب ونحن نقاتل مقهقرين لا نستطيع أن نمد لها يدا، ثم أطبق عليها الأعداء بالبلط والخناجر.
ساعات مرت دون أن تتوقف العملية دقيقة واحدة. أنهكنا التعب. قل زادنا من الطعام والذخيرة والماء. وضاعف من إرهاقنا إحساسنا بالقذارة ونحن نتقلب فى الطين. الساعات تمر بثقلها فوق أجسادنا وأرواحنا. وساءلت نفسى حتى متى أحتمل العناء الذى يفوق البشر.
وهتف صوت:
- صوت دبابات!
- وطائرات!
هل جاءت نجدة حقاً؟
ارتفعت روحى المتهافتة. اشتد إطلاق النار. دارت الدبابات من حولنا وهى تقذف بقنابلها. ثم دوت انفجارات قنابل الطائرات. تراخت القبضة الخانقة لرقابنا. تحولنا من الدفاع المتقهقر إلى الهجوم. اقتحمنا البيضا ونحن نتساقط من الإعياء. علمت باستشهاد أحد زميلى بنقطة الإنذار فوق الجبل الأسود. تذكرت أحاديثنا منذ ساعات عند مشارف قرية غراز. قال أنه رأى وجوهاً تشبه بعض أفراد أسرته بدرجة مذهلة. اقتنع بأنه ينحدر من أصل يمنى. وقال لى:
- لا تدهش إذا قررت – بعد الحرب – الإقامة فى اليمن إلى الأبد!
- 5 -
الأديب
طارت بنا الطيارة إلى تعز. ودون توقع أحد منا وجدنا أنفسنا فى جنة. تهادت بنا السيارة من المطار إلى القصر الجمهورى فى جنة.
- ماذا ترون أيها الأخوة؟
- سويسرا.. لبنان.. حلم الخيال.
الحقول خضراء، المراعى خضراء، الطرقات مجللة بالأشجار، الحدائق أكثر من البيوت عداً، سلسلة من الجبال كالأنغام المتموجة مكسوة بالزمرد مزركشة بالأزهار، الجو لطيف. بريق السحر معبقاً بشذا الورود والثمار. وصاح صائح مشيراً إلى القمة:
- يا له من فندق سياحى!
إنه يلوح كوكر نسر فوق قمة جبل وسيط بين التموجات الجبلية غير أن الدليل قال مصححاً بهدوء:
- بيت الرهائن، وهو اليوم خال.
وضحكنا ونحن نتأمله فى أسى. واخترت شاعراً من بين الزملاء وهمست له:
- ألا تعذرنى أن طلبت الإقامة فى تعز؟
فأجاب بشىء من الامتعاض:
- دلنى على ملهى واحد..
ولما آنس منى دهشة استرد:
- دفء الجمال الحقيقى إنما ينبعث من المرأة..
ثم بعد دقيقة صمت:
- والويسكى.. لا يجوز أن ننسى الوقود.
استرحنا فى القصر الجمهورى ساعة. دعا الداعى إلى التسويق. ذهبنا إلى السوق كل يحمل بدل سفره. وتساءل صوت فى براءة:
- أليس من الأفضل أن نحتفظ بالعملة الصعبة لوطننا؟
انهالت عليه مختارات من السباب شعراً ونثراً. تجولنا فى السوق. الوجوه ناضرة جميلة. الحوانيت يديرها غلمان هم آيات فى النشاط والذكاء. اخترنا محلاً متوسطاً فانقضضنا عليه كمجموعة من الفئران. زاغت الأبصار بين لعب الأطفال والساعات الأتوماتيكية والأغطية والمفارش والبلوزات والإشاربات والشالات. من جميع بلاد المعمورة. وابتاع كل حقيبة متوسطة ليودع بها هداياه. عدنا ولا عملة معنا صعبة ولا سهلة. ذهبنا – عقب الغداء – إلى ميدان الشهداء لشهود ندوة أدبية. استقبلنا بهتاف واتخذنا مجالسنا وراء مائدة مستطيلة. ازدحم الميدان بالجمهور. استبق الشعراء إلى الترحيب بنا والإشادة بثورتنا. وألقى شعراؤنا قصائد عن العروبة والجهاد والثورة والاشتراكية. وجدتنى طيلة الوقت أقارن بين أحاديثنا الفردية وكلماتنا أمام الجمهور. بين تجوالنا فى السوق وموقفنا وراء المنصة. أن الصوت الذى يتحدث أمام الجماهير هو صوت الجماهير. وخيل إلى أننى أدركت شيئاً مما ينقصنا. لعله محور التناقض بين ما يقال وما يجب أن يقال. أن نتبنى فى خلوتنا صوت الجماهير. ها هى أشداق مستقبلينا متكورة بالقات إذ قامت الحفلة فى وقت التخزين. هكذا اجتمع خازنوا القات بخازنى الهدايا فى سباق الحماس لتقرير المبادئ المثالية للأمة العربية. وعند إبداء ملاحظة من هذا النوع ستسمع من يرد عليك قائلاً "يا أخى.. نحن بشر.. لم نرتكب شراً.. ونحن مخلصون.." ولكن أين الروح التى تشعل القلوب؟، أين لحظات الانتصار على النفس التى تخلق المعجزات على مدى التاريخ؟ ماذا ينقصنا؟. لماذا نبقى كأننا متفرجون حسنو النية أمام فيلم يموج بجليل الأحداث؟. وخيل إلى أن شيئاً يتحرك عند ساقى تحت المائدة. طويت طرف الغطاء ونظرت إلى أسفل فرأيت صبية فى الثامنة أو دون ذلك، متلفعة بشال أبيض، تتفرج على الحفل من تحت المائدة، شعرت بعينى فأدارت نحوى عينيها فرأيت وجهاً صغيراً نقى البشرة يحدق فى بعينين سوداوين كأجمل ما رأيت فى حياتى من عيون. وجب قلبى ممتناً لرؤيتها. وفاض به نبع من الحنان والحب. ورفعت عينى إلى قطع السحاب الأبيض المشعشع بنسائم مخضلة برذاذ يجئ قليلاً وينقطع قليلاً فاطمأن القلب إلى وجود شئ صغير على هامش الجمع، عند ساقى، ولكنه كامل الصدق والنقاء. وسهرنا فى حديقة القصر حتى الهزيع الأخير من الليل. الهواء بارد دسم ولكنه مفعم بالأمان والسحب تبهر العين بضياء القمر. وقال محدثنا:
- المدن معنا، أما الجبال فمارقة ولا سبيل للتفاهم بين الاثنين.
وقلب عينيه فى وجوهنا مستطلعاً ثم واصل:
- فإما أن نلتزم موقف دفاع إلى الأبد وإما أن نبيد العدو إبادة!
وقال قائل:
- الإبادة!
وقال آخر:
- الحضارة.. نغزوهم بالحضارة!
وثالث قال:
- نعترف بالواقع!
وتواصل الحديث تحت ضوء القمر. وتجلت لنا الحقيقة صخرية صلبة مستقلة بذاتها عن الأحلام.
الجندى
إلى وادى نشوز.
تحركنا بالعربات المدرعة R + R شارفنا الوادى. تقدمت دبابتان للاستكشاف تتبعهما مدرعتى للحراسة. دخلنا ممراً ضيقاً تقوم على جانبيه هضبتان صخريتان وكنا فى المدرعة عشرة. بعد توغل نصف كيلومتر انهمر علينا الرصاص. تصدت دروع السيارة للرصاص واستمرت عملية الاستكشاف. انحشرت سيارتنا فى مطب أو التحمت بشئ مرتفع فتوقفت. عجزت عن التحرك وضاع كل جهد لتخليصها.
- على دبابة أن تدفعنا من الخلف.
- ليذهب أحدنا إلى إحدى الدبابتين.
وقعت القرعة على زميل فغادر السيارة ليزحف على بطنه فى الظلام. انتظرنا فى غاية من القلق. وبعد دهر رجع إلينا وهو يقول:
- دبابة المقدمة مشتبكة فى قتال على بعد خمسة كيلومترات. أما الأخرى فقد تعطلت!
صعقنا الخبر. وهمس صوت:
- نحن عشرة والعدو آلاف.
- والعمل؟
- مصير سيارة البيضا!
من داخل السيارة رأينا الأشباح تهبط فى حذر من الجبل. فتحنا سقف السيارة وأخذنا أهبتنا بالبنادق والقنابل اليدوية. طلبنا النجدة باللاسلكى ولكن الاتصال انقطع. أمرنا أقدمنا فى الخدمة بمغادرة السيارة. مرت لحظات رهيبة ممزقة بالخوف. قاومت موجة من الضحك تريد أن تجتاحنى. وثب أحدنا. تبعناه بلا تردد. نفر من الموت إلى الموت. انهال الضرب. انبطحت على وجهى. استعملت البندقية والقنابل اليدوية. فى هنيهة صمت رفعت رأسى فلم أجد أثراً لأحد من زملائى. دعوت القمر أن يختفى. لم أدر أين أتجه ولا كيف تفرق الزملاء. خيل إلىَّ أننى محاصر. اتجهت وجهة بلا خطة ولا علم لى بما ينتظرنى. دهمتنى لحظة مباغتة فوجدتنى حيال ثلاثة أشباح من العدو بلا تدبر أو وعى فتحت الأمان وضغطت على الزناد فانطلقت مطرة من الرصاص خر على أثرها الثلاثة. انطلقت أعدو على غير هدى تحت ضوء القمر. سمعت صوتاً ينادينى فاتجهت نحوه بلهفة من يفلت من قبضة الموت. وجدتنى مع مجموعة من الزملاء ماضية فى حذر نحو شبح الدبابة المعطلة. ولما بلغناها صحنا معه.
- افتحوا.. نحن مصريون!
لم نتلق من الداخل استجابة من أى نوع كان. كررنا النداء بلا أمل. يئسنا فدفعنا أنفسنا فى الحشائش متفرقين وأصوات الرصاص لا تنقطع. وأخذ الضرب يخف حتى سكت. نهضت فى حذر مقترباً من الدبابة وهتفت بتوسل:
- افتحوا.. إنى مصرى.. ألا تسمعون؟
ظلت الدبابة غارقة فى صمت متحد مرهق رهيب حتى تطايرت اللعنات من فمى ثم رجعت مغيظاً يائساً إلى قبر الحشائش. وإذا بالضرب يتركز على الدبابة كالسيل. مست رصاصة خوذتى فتشهدت. ترقبت الرصاصة التالية بيأس وقهر. هاتف قال لى أننى سأعود إلى مصر. أقسم لى على ذلك. اشتد الضرب لدرجة غير محتملة. ثم يهدأ ويخف لسبب لا أدريه. لم يبق منه إلا طلقات متباعدة وأنا مغروز بكل قوتى بين الحشائش. وخيل إلى أن الظلام يخف ويبهت رويداً. أجل. الظلام يخف رغم اختفاء القمر وراء الجبل. سوف تلوح تباشير الضياء وينقشع الظلام الذى يخفينى عن عين العدو المتربص. سيجدنى صيداً سهلاً وسينهال الرصاص الحانق الغاضب علىَّ من جميع الجهات. الصباح يقترب ولا مكان للمعجزات. لعل أمى تصلى فى هذه اللحظة ولكن لا أمل فى المعجزات. واشتد الضرب فجأة. اشتد أكثر من أى وقت مضى. أصبح الضوء يسمح بالرؤية. أقدام العدو تتراجع نحو الجبل والضرب يجئ من الناحية الخلفية. ترامى إلى سمعى صوت دبابة أو دبابتين. جاءت النجدة. أن القذائف تطير فوقى لتنفجر خلف سفح الجبل. لم تدم فرحتى إلا ثانية واحدة ثم تساءلت كيف أعلن عن حقيقتى المدفونة لبنى وطنى؟. كيف أتجنب الموت برصاصهم أو شظايا قنابلهم؟. أطلقت النار نحو العدو المتقهقر. وتركز الخوف من الموت فيما ورائى. أثقلنى التعب وثقل على بصفة خاصة فوق كتفى اليسرى. وغاصت الأرض بلا سبب واضح. إلى أين تغوص الأرض ولماذا؟. إننى أهبط فى هوة ثم يرفعنى شئ مجهول إلى اعلى. وعاد ضوء الصباح يضعف بسرعة عجيبة حتى غاب كل شىء فى الظلام.
- 6 -
الأديب والجندى
غادرنا القصر الجمهورى فى الصباح الباكر. والسيارة تميل بنا نحو طريق المطار. اعترض سبيلنا قطيع غنم ترعاه فتاة.. فتاة جميلة لخص وجهها وقوامها جمال تعز بكل أشكاله وألوانه. اهتز الشاعر وجعل يهلوس بها بقية الرحلة. عدنا إلى الحديدة. إلى الحرارة الذائبة فى الرطوبة الخانقة. قال:
- الارتفاع فى المكان يحدث المعجزات، كذلك الروح فإنها إذا شاءت أن ترتفع فإنها تعانق المعجزات، ما رأيك فى هذه الفكرة؟
قلت:
- لخيرك ولخير الشعر لا تكتب إلا عن المرأة!
ودعانا القائد إلى العشاء فوق سطح مسكنه على شاطئ البحر الأحمر. لطف الجو على شاطئ البحر. طاب السمر حول المائدة الحافلة بما لذ وطاب من طعام وشراب. تجاوبت فى الفضاء ضحكاتنا. هل سمعتم نكتة الرجل الذى. هل تعرفون حكاية الزوجة التى، هل وهل وها وها. وتنوع الحديث واختلط جده بهزله، وتعدد المتحدثون فى وقت واحد، وانقسموا إلى وحدات مستقلة.
- الجبليون أشداء، عندما يحكم على أحدهم بالموت يتقدم إلى السياف مطلق اليدين على مشهد من أهلهه لو خاف أو صرخ ركبهم العار إلى الأبد، يحنى رأسه بثبات، يهوى عليه السيف دون بادرة خوف من ناحيته، ينفصل رأسه عن جسده وكأنه رأس رجل آخر.
- رجال أشداء حقاً، من سلالة غزت العالم ذات يوم، وقوة مدخرة للخير مستقبلاً!
* * *
ترى أين تلميذى القديم، جندى المظلات، ماذا يفعل الآن، وماذا يفعل غداً؟
* * *
- وينفذون أوامر شيخ القبيلة بلا تردد، فى المعقول وفيما يجاوز أى معقول، حتى الموت نفسه يهجمون عليه دون مبالاة، ويؤمنون بأنهم من طينة غير طينة البشر، وأن الدنيا جميعاً تحت وأنهم فوق، كالجبال التى تؤويهم!
* * *
- ستعود فرقة من الجنود معنا على ظهر الباخرة..
- ما أجمل أن تؤدى واجبك فى حرب ثم تعود إلى الوطن سالماً!
- الإنسان يحارب منذ وجد على ظهر الأرض، ومن خلال الحرب خلق الحياة والحضارة!
- متى انقلبت إلى مارد فلسفى؟
- لا فلسفة ولا دياولو، فكرة تذهب بى وأخرى تجئ بى.
- سبق أن قلت أنك لم تحارب ولن تحارب.
- والحمد لله على ذلك!
- ومرة تزوج جندى دون إذن فقدم للمحاكمة وحكم عليه بالحبس سبعة أشهر، ثم أرسل إلى مصر لتنفيذ الحكم ولكنهم أرسلوا معه زوجته اليمنية..
* * *
- دماغى يدور ويجب أن نتبادل الرأى.
- سيتسع المجال فوق ظهر السفينة.
- العالم غريب ملئ بالمتناقضات ولا معنى لشىء إذا لم نعرف لماذا نعيش!
- شربت أكثر مما ينبغى..
- إنى أشرب زجاجة كاملة وأستطيع بعد ذلك أن أحاضر إذا شئت..
- متى تجمع محاضراتك فى كتاب؟
* * *
ترى أين ضابط الشئون العامة لأسأله عن جندى المظلات؟
* * *
- وتلاقينا مع قوة معادية ولكن حجز بيننا صخرة كبيرة فى ممر جبلى، تحصنت كل جبهة فى مكانها واستحال علينا القتال، دخلنا معركة كلامية، قلنا لهم يا عبدة الإمام يا أعداء الإصلاح فقالوا لنا يا كفرة يا فجرة يا عبدة الشيوعية، ثم تمادينا فى السب والقذف!
- لا أعرف مكانه الآن، أكتب له خطابا وأعدك بإيصاله إليه فى أى مكان فى الميدان..
* * *
- هل جربت مواجهة الموت؟
- الحياة كلها كفاح وليس للجندى وحده الذى يحارب..
- ولكن..
- سأقص عليك قصة حب عانيتها زمناً، بطلتها فتاة متمردة وحشية، وسوف تقتنع بأن ما كان بينى وبينها لا يختلف عن القتال فى شئ.
* * *
هل ثمة فرصة لأكتب كلمة سريعة؟
أخى العزيز..
كم وددت أن أودعك قبل الرحيل. أذكرك بالحب والأكبار وأنا على وشك العودة إلى أرض الوطن. ستعود إليه ذات يوم منتصراً راضياً بإذن الله. أهنأ الآن بأنك تحارب فى سبيل قضية عادلة، قضية التقدم للإنسان العربى. ومهما تكن العوائق ومهما تكن العواقب فإنك بذرت فى الأرض بذرة من طبيعتها النمو والازدهار. أستودعك الله وإلى اللقاء.
"المخلص
وما زالت أغنية تتردد متهادية إلينا من معسكر الجنود فوق مقدم السفينة.
- ترى فيم يفكرون حول بنادقهم؟
- الحرب.. إنها الحرب..
- أقدم حرفة فى الوجود.
- لكنها تنشب هذه المرة فى سبيل التحرير والحرية.
- إنها الحرب، وهى ككل حدث خطير تدفعنا إلى مواجهة لغز الوجود، وجهاً لوجه..
وتذوقنا حيناً النسمة الملاطفة. استسلمنا بكل قوانا للحظة طيبة خالية من الكدر، ثم تفرق الحديث واختلف كأنما يدور بين أجيال. وأوشك أن يستقل كل اثنين بفكرة ما.
- ستكون الحرب المقبلة خاتمة الحروب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.