أعادتنى ذكرى وفاة العندليب عبد الحليم حافظ يوم 30مارس التى احتفلنا بها الأسبوع الماضى إلى حكايات أغانيه الوطنية التى سيطرت على كل تفكيره وأحساسيه فكان الوطن شغله الشاغل بانتصاراته وانكساراته وافراحه وأحزانه، وكانت لكل أغنية وطنية حكاية فى حياته لن أستطيع تقديمها فى هذه المساحة الضيقة، وأكتفى بحكايتين لشاعرين كبيرين من الذين بدأوا رحلتهما فى الأغنية الوطنية معه وهما: أحمد شفيق كامل فى رائعته «مطالب شعب» (السد العالى) تلحين كمال الطويل، وأنور عبد الله فى رائعته «الله يا بلدنا الله .. على جيشك والشعب معاه» لحن الموسيقار محمد عبد الوهاب. وقد لمع صوت عبد الحليم حافظ مع ثورة 23يوليو 1952 وكان عمره حينئذ 23عاماً) وكان الزعيم جمال عبد الناصر بطل الثورة ملهمه الأول واستطاع أن يصبح مطرب الثورة الحقيقى الذى أرخ انجازاتها بالأغنية المصرية – كما قال النقاد فى هذا الوقت – وأصبح فى كل عيد ثورة يعد رائعة وطنية جديدة فى احتفالاتها السنوية يوم 23يوليو بحضور عبد الناصر فى نادى الضباط بالزمالك وما أن ينتهى الحفل ويستريح عبد الحليم لمدة أسبوعين يبدأ فى الاستعداد لرائعة جديدة للعام القادم واستمر على هذا الحال طوال سنوات الثورة وكذلك فى أزمة1967 والعدوان الثلاثى وحرب الاستنزاف إلى انتصارات أكتوبر1973 وعودة الملاحة فى قناة السويس1975 التى سجل فيها رائعتيه الجديدتين «المركبة عدت» لكاتب هذه السطور لحن الموسيقار عبد الوهاب، و«النجمة مالت ع القمر» كلمات الراحل محسن الخياط ولحن محمد الموجى، ليصبح عبد الحليم حافظ أكثر المطربين الذين سجلوا أغنيات وطنية فى حب الوطن منذ بداية اهتمام الاذاعة والتليفزيون بالأغنية الوطنية وترك لنا كنوزا من الغناء الوطنى تزخر بها مكتبات الاذاعة والتليفزيون وترددها الأجيال السابقة والمعاصرة وحتى قيام ثورتى 25يناير و30يونيو، لعديد من الشعراء الكبار الذين عاصروه أيضاً ومنهم عبد الرحمن الأبنودى فى «أحلف بسماها وبترابها»، و«صباح الخير يا سينا» ألحان كمال الطويل، و«فدائى فدائى دم العروبة فدائى ..أموت أعيش .. مايهمنيش .. وكفاية أشوف علم العروبة باقى» كلمات محمد حمزة ولحن بليغ حمدى، .. وغيرها. وقد أيقن شعراء الثورة أن عبد الحليم حافظ هو النافذة الحقيقية التى يستطيعون توصيل مشاعرهم وأحاسيسهم تجاه هذه الثورة من خلاله للجمهور خاصة أنهم يتأكدون أن حب عبد الحليم للثورة وزعيمها عبد الناصر هو نفس حبهم لها وأنهم يشعرون معا بانتصاراتها وانكساراتها وقد ساعدهم على ذلك اتصال عبد الحليم بكل منهم للتعرف على الجديد لديهم من أغنيات انتهوا من كتابتها فيفتش فى أذهانهم عن كل معنى جميل لزعيمها ولجيشها وضباطها الأحرار لدرجة أن أحدهم وهو الراحل أحمد شفيق كامل عندما كان فى غربته يعمل ملحقاً تجارياً بجدة شعر بموقف البنك الدولى الرافض لأى قرض بالنسبة لبناء السد العالى وأنه انفعل بهذا الموقف الغريب من البنك فكتب بعض مقاطع أغنية السد العالى ولكن أحمد شفيق كانت علاقته أقوى بالموسيقار كمال الطويل صديق مشوار عبد الحليم حافظ فاتصل به وقرأ له بعض هذه المقاطع فأعجبه كلامها فأبلغ عبد الحليم بأن شفيق أوشك على الانتهاء من كتابة أغنية السد ففرح عبد الحليم بذلك خاصة الكوبليه الذى يعبر فيه عن غضب الشعب المصرى من موقف البنك الدولى وطلب من شفيق قراءة هذا المقطع الذى يقول: راح على البنك اللى بيساعد ويدى .. قاله حاسب .. قالنا مالكومش عندى .. قلنا ايه .. كانت الصرخة القوية .. فى الميدان فى اسكندرية .. صرخة أطلقها جمال .. احنا أملنا القنال .. ضربة كانت من معلم .. خلى الاستعمار يسلم .. والحصار الاقتصادى .. برضه ماذلش بلادى، فطلب كمال الطويل ارسال النص الكامل للأغنية إليه فى أقرب فرصة ولكن فرحة شفيق كامل جعلته لا ينتظر ارسال كلام لأغنية فركب أول طائرة وحضر إلى القاهرة وقابل كمال الطويل فى شقته بالزمالك ورحب به كمال وشكره لحماسه وحبه للوطن وكان شفيق قد سلمه الأغنية كاملة وجلس على البيانو يدندن وامتدت السهرة إلى قرب الفجر وغادر شفيق المكان إلى منزله فى منطقة المنيرة بقصر العينى وفى الصباح اتصل كمال الطويل وأبلغ عبد الحليم أنه انتهى من كتابة اللحن كاملاً الذى اتصل بدوره بالموسيقار أحمد فؤاد حسن قائد الفرقة الموسيقية وطلب منه تجهيز الفرقة لإجراء البروفات بعد كتابة النوتة الموسيقية والتى استغرقت أكثر من 15يوماً وحفظ عبد الحليم اللحن الذى كان من أشهر الأغانى الوطنية التى سجلها حليم فى حفل وضع حجر الأساس لبناء السد العالى بمدينة أسوان والذى قدمه فى ذلك الوقت الاذاعى الكبير جلال معوض، وهو نفس ما حدث مع الشاعر الكبير أنور عبد الله والموسيقار محمد عبد الوهاب فى أغنية «الله يا بلدنا الله .. على جيشك والشعب معاه» التى تابعت تسجيلها وظل محفوراً فى وجدانى جمال كلماتها وروعة موسيقار الأجيال فى تلحينها وأداء عبد الحليم حافظ لها، وأروى ما حدث لى بشأنها عندما ذهبت إلى ميدان التحرير بعد ثورة يناير2011 لأتابع أحداث هذه الثورة حيث اكتظ الميدان بملايين الشباب الذين أقاموا المنصات فى هذا الميدان وعلت هتافاتهم تدوى بعظمة الجيش المصرى ودوره الوطنى فى حماية الثورة ووصلت هتافاتهم إلى كوبرى قصر النيل وميدان عبد المنعم رياض حيث انطلقت حناجرهم تهتف «الجيش والشعب ايد واحدة» وهنا وجدت أحد الصحفيين الشبان وكان يعرفنى عن قرب خاصة تجربتى فى الأغنية الوطنية وقال لى: ألم تنتج هذه الهتافات المدوية عن أغنية تعبر عن هذا المعنى نسمعها الآن؟، فعادت ذاكرتى إلى الوراء لأكثر من 55سنة لأتذكر رائعة الشاعر الكبير أنور عبد الله التى لفتت نظر عبد الوهاب وعبد الحليم فى ذلك الوقت خصوصاً فى مطلع الأغنية التى تعبر عن نفس الهتافات رغم مضى أكثر من نصف قرن على انتاجها ويقول فيها «الله يا بلدنا الله .. على جيشك والشعب معاه .. فى جهادك قوة .. وسلامك غنوة .. يا بلدنا الحلوة الله .. نفسى اديكى المجد علاه .. الله يا بلدنا»، ولم ينس أنور عبد الله فى هذه الأغنية تصدى الجيش المصرى للعدوان الثلاثى على مصر عام1956 فترجمه بقوله «أساطيل وجيوش الأشرار .. حاربتنا بغدر ووحشية .. هزمتها أيادى الأحرار .. بسلاح الثورة الشعبية»، واستمر حديثى مع الصحفى الشاب الذى قال: عمرى الآن 33عاماً ولم أكن ولدت بعد واستمر بيننا الحوار خلال عودتنا من ميدان التحرير حتى شارع رمسيس وانصرف بعد أن أكد لى حماسه للجيش المصرى البطل وحبه لعبد الحليم حافظ مطرب ثورة 23يوليو. وبالمناسبة فقد كان التليفزيون موفقاً عندما عرض الأوبريت الشهير «وطنى حبيبى الوطن الأكبر» ليلة مؤتمر القمة العربية فى دورته السادسة والعشرين بقيادة الموسيقارعبد الوهاب للأوركسترا أمام عبد الحليم حافظ ومجموعة المطربين وكان أفضل ما قدمه التليفزيون بمناسبة هذه القمة العربية التى رأسها لأول مرة الرئيس عبد الفتاح السيسى وشارك فيها الملوك والرؤساء والقادة العرب. رحم الله عبد الوهاب وأحمد شفيق كامل وأنور عبد الله وكمال الطويل وعبد الحليم وكل المبدعين الذين قدموا إبداعاتهم الوطنية من عشرات السنين والتى لا تزال ترددها الأجيال المتعاقبة جيلاً بعد جيل بقدر ما قدموه لوطنهم العظيم.