من ذكريات يحيى حقي أن بطل إحدى قصصه كان عمدة يتصرف مع فلاحيه تصرفا ظالما خشناً ، لكن يحيى حقي ما لبث أن تعرض للتهديد من عمدة إحدى القرى بتهمه أنه يهينه و يشّهر به ، ولولا تدخل أولاد الحلال ومحاولتهم إقناع العمدة أنه لا يكتب عنه بل مجرد قصة بطلها عمدة يسىء استغلال نفوذه لكان يحيى حقي ضحية هذا العمدة الذي لا يفرق بين الواقع و العمل الفني. وقد تعرضت أكثر من مرة لمثل هذا الفهم من قراء يخلطون بين الواقع و الخيال ، صحيح أن من بين مصادر القصاص شخصيات يعرفها ، لكنه عندما يستلهمها من واقعه فإنها تتحول إلى كائن إبداعي . فهناك أربعة أنواع من الوجود : وجود ذهني كأن أتخيل أنني أقبّل شخصاً أو أضربه ، ووجود واقعي وهو أن أضربه أو أقبله فعلاً ، وهذان الوجودان يموتان بموتي . ثم وجود واقعي كان موجودا قبل وجودي و يظل موجودا بعد مغادرتي الحياة مثل النهر و الجبل و الشمس والقمر . ثم وجود فنيّ من الموجودات الثلاثة السابقة لكنه ليس أيهم ، يوجد بوجودي لكنه يظل بعد مغادرتي الحياة ، وذلك هو العمل الفني سواء كان قصة أو شعراً أو تمثالاً أو موسيقى ... إلخ لكن جمهور المتلقين ليسوا في مستوى ثقافي واحد فيخلط بعضهم بين الوجودين الواقعي و الفني كما خلط عمدة يحيى حقي . وقد واجهت هذه القضية خلال رحلتي الإبداعية / كما لابد واجهها مبدعون آخرون ، فعندما نشرت قصتي «العشاق الخمسة» في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي ، وكانت بطلتها موضع إلهام لخمسة من الشباب الجامعي مابين شاعر ومثّال وقصاص ومتفلسف ، وتنتهي القصة بزواج البطلة من أستاذها الجامعي ، حاول أكثر من قارئ بل و ناقد أن يجسِّم هذه البطلة في شخصية طالبة جامعية بالذات لها نشاطها الأدبي ، بينما استلهمتها من ثلاث زميلات كن يدرسن معنا قمت بعملية تكثيف Comdensation منهن (وهو مصطلح فرويدي كما يحدث في أحلامنا حين ندمج أكثر من شخصية في الحلم في شخص واحد) ، وإذا جاز لي أن أكشف الآن بعد ستين عاما من نشر هذه القصة عن هؤلاء الزميلات اللاتي تزوجن أساتذتهن واللاتي إستوحيتهن في بطلة العشاق الخمسة بعد عملية التكثيف فإنهن الآنسات – وقتئذ – الشاعرة ملك عبد العزيز التي تزوجت (فيما بعد) المناضل والكاتب د. محمد مندور . و الصحفية بالأخبار (فيما بعد) مي شاهين التي تزوجت (فيما بعد) دكتور الفلسفة توفيق الطويل ، و لطيفه الزيات المبدعة والثورية والدكتورة (فيما بعد) التي تزوجت أستاذ اللغة الإنجليزية و المبدع د. رشاد رشدي. وعندما نشرت قصتي «الزحام» في صحيفة الأهرام عام 1963 مستوحيا بطلها من أكثر من شخصية احتككت بها و رسم غلاف المجموعة – المطبوعة في دار الآداب بيروت و الحاصلة على جائزة الدولة التشجيعية والمسماة باسم هذه القصة – الفنان جمال قطب ، جاءني أحد زملاء العمل بالمجلس الأعلى للفنون الآداب والعلوم الاجتماعية (الثقافة حالياً) الذي كنت أعمل به يتهمني أنني استوحيت بطلها منه بدليل أن صورته المرسومة على غلاف المجموعة عن صورة له – وهو تشابه موجود فعلاً - وكان بطل القصة قد عاشر زوجة أبيه بعد وفاته – ويبدو أن تأنيب ضميره قد أسقط ما كتبته في قصتي على تصرفه ، وكان مهدداً لي حينا مرتعباً حينا من شقيقه القصاص لو اطلع على المجموعة فيفتضح أمره ، فكانت إجابتي حتى لو فرضنا أنك بطل القصة – و أنت تعلم أنني لا أعرف سرك إلا عندما بحت لي به الآن - فهل عند الفنان جمال كامل صورتك ، إن هو إلا تأنيب ضميرك يحملك على إسقاط كلّ من بطل القصة وصورة الغلاف عليك . أكتب هذه الكلمات بسبب ما أثارته قصتي التي نشرتها في أهرام 6 مارس 2015 بعنوان «ثرثرة بين الصحو و المحو» ، فقد اتصل بي أكثر من قارئ يحاول أن يرد بطلتها إلى شخصية بالذات ليتأكد مني ما استشفه خلف ما قرأ مسقطا رؤيته عليه. و أعترف أنني بقدر ما سعدت ببعض هذه التأويلات بقدر ما شقيت بأخرى – لإحدى قصصي التي أعتقد أنه ربما كانت حداثية الشكل هي سبب ما أثارته القصة لدى البعض ، بينما أسعدني آخرون تلقوها دون محاولة إسقاط رؤية مضافة لعل في مقدمتهم الصديقة الدكتورة سامية الساعاتي التي تجمع بين أستاذية علم الاجتماع والإبداع الأدبي حين أبلغتني : قرأت قصتك ثلاث مرات ، و سأقرأها للمرة الرابعة . فالقص ليس ما وقع (تاريخ) و إن كان احد مصادره ، لكنه ما يُحتمل أن يقع (فن) على نحو ما علّمنا أستاذنا الأول أرسطو .