لم تنفصل التصورات المثالية حول فكرة «الأمة الواحدة» لدى مؤسس الفكر القومى «زكى الأرسوزى» عن الخيبات العربية التى نالتها أمته حتى تبددت أوهى، على الأقل، قيد التبدد. الأرسوزى بنى أطروحته فى جملتها على اللغة كواحدة من أعلى تجليات الخصوصية الثقافية، لكنه لم يُقدَّر له أن يعيش حتى يرى تلاشى المسافة بين الأمَّة بتشديد الميم وبين الأمَة بفتحها. فالأُولى كانت حلما تجتمع حوله إرادات شتى مستهدفة تجديد مناعتها الحضارية، أما الثانية فظلت تمثيلا لأحط أشكال العبودية وأكثرها قسوة، ومن ثم بقيت بين أعلى تمثيلات الهزيمة. التقارب الذى حدث بين المفهومين «الأمَّة والأمَة» لم يجسد لدى العامة إلا حسرة تمددت عبر أكثر من قرن ونصف القرن . فالدولة التى حلم بها الأرسوزى ورفاقه فقدت بريقها وجاذبيتها لدى قطاعات عريضة من الحالمين بها بعد تصدع المشروع القومى الذى ارتبط بمشروع التحديث عبر أكثر نماذجه طليعية. ومنذ صيف السابع والستين تعززت لدى عامة العرب قبل خاصتهم فكرة وصول الصراع إلى منتهاه حيث انتصار ما بعد الكلونيالية فى صيغتها الجديدة ومن ثم كان لابد من إعادة إنتاج الحلفاء القدامى من قادة الرجعية العربية لكى يتقدموا سطح المشهد لإعادة الحيوية إلى فضائه الموحش. وهكذا حلّ نموذج الدولة الرجعية التى سرعان ما أعادت إنتاج الأبوية والطوطمية لتعزز فى النهاية تلك التصورات الاستشراقية القديمة حول دوجمائية ورجعية الفكر الإسلامى عامة والعربى على نحو خاص. وقد عمدت الأنظمة فاقدة الشعبية، بطبيعة تكويناتها المعادية لشعوبها، إلى تعزيز بقائها عبر تكريس أدوات التجهيل بالمزيد من تقديس الماضى ومن ثم إضفاء المزيد من الرواقية على الناطقين به عبر تعزيز مكانتهم ووجاهتهم الاجتماعية. لذلك يطمح ملايين من العرب المحدثين، لاسيما تلك الأجيال التى تشكلت عظامها فى أقسى عصور الهزيمة، أن يكون حكام قمة شرم الشيخ مدركين حجم الآثام التى اقترفتها دولتهم، بداية من تغييب عقلها وضميرها نهاية بتعظيم مصادرها التى لا تنضب من سوء الفهم. وإذا كان ثمة إدراك حقيقى، فى قرارات القمة، للتحولات الرهيبة فى الجغرافيا السياسية التى تنتظر المنطقة فإن ثمة ضرورة بالتالى لتجديد أدوات التعامل معها وهذا لا يستتبع فحسب إعادة النظر فى المقول النظرى للأرسوزى ومفكرى القومية العربية جملة؛ بل يستدعى الأمر فتح منافذ الضوء للفكر السياسى الجديد ، لاسيما وأن ما يحدث يستوجب إعادة النظر فى مفهوم الأمن القومى العربى جملة، ومن ثم فإن جميع التحالفات القديمة ذات الطابع الاستعمارى لن تكون مجدية فى التطلع إلى تجديد مفهوم الأمن القومى وهى أمور لا تنفصل عن ضرورات ذات علاقة وثيقة بالحرية الإنسانية التى لا يجب أن تقف عند سقوف بذاتها مهما كانت قداستها. ربما لذلك عقدت الدهشة لسان ملايين المواطنين أمام تناقضات شتى يكتظ بها مشهد التحالفات الجارية فى حرب «عاصفة الحزم» لدرجة تحولت معها المأساة العربية لفصول من الكوميديا السوداء. وقد تمددت تلك الظاهرة فى الكتابات الصحفية والإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعى، لكنها فى النهاية زادت السؤال غموضا بحيث ولد عشرات الأسئلة الجديدة التى بقيت هى الأخرى دون إجابة. ولا أشك فى أن الكثير من تلك الأسئلة، فضلا عن أفقيتها وسطحيتها، تتجاوز حاجتنا للفهم. فالعقل العام لم يعد فى حاجة إلى أفكار تتغذى على شرعية الفقه والفقهاء قدر حاجته إلى عودة تلك الأفكار إلى وظيفتها الأدائية والنفعية لتنتج فعلا أرضيا يقلص مساحات الهزيمة فى نفوس الناس ، وهو جوهر ما يتحدث به فيلسوف النفعية «جون ديوي» الذى يرى أن صواب الفكرة لا يجب أن يستند إلى برهان من السماء بل يجب أن يستند إلى سلامتها فى الواقع، وتوضيحا لهذا المعنى يقول زكى نجيب محمود إن السكين يفقد وظيفته إذا فشل فى قطع غيره لأنه، فى الأصل، أداة تعالج شيئا سواها. وسكين زكى نجيب محمود هنا يمثل قرينا للخطاب السياسى العربى الذى فقد وظائفه، وجزء كبير من تلك المشكلة يكمن فى تناقضات شتى نراها فى محتويات تحالف «عاصفة الحزم»، والمطالبة بالوضوح هنا لا تعنى أكثر من حتمية إزالة هذه التناقضات حتى يبدو الخطاب السياسى العربى متماسكا ومن ثم يكون قادرا على تقديم البرهان على منطقيته وعقلانيته، ولن يحدث هذا إلا بإدراك المتطلبات الجديدة للأمن القومى العربى بعيدا عن وصاية تحالفات ما بعد الحرب العالمية الثانية. فتجديد وظائف الدولة العربية لن يتم بعيدا عن تجديد مفاهيمها حتى لو امتلكت دولها، لاسيما الريعية منها، فوائض مالية باذخة. فقد تأكد للكافة أن تلك الفوائض لم تمثل أدوات حماية قدر تحولها لأداة من أدوات تكريس التبعية. وربما بسبب من تلك الصورة السوداوية، التى انتهت إليها الدولة العربية ، لم يعد هناك من يملك رفاهية الاختلاف مع عشرات المفكرين الذين وصفوا القومية ومفكريها بأنهم مجموعة من الميتافيزيقيين الذى يعيشون خارج الزمن. فالمسوغات التى وضعها زكى الأرسوزى ورفاقه لتلك الدولة تميزت بالكثير من الإقصائية والانغلاق لاسيما فى فهما للآخر. يتجلى ذلك فى التكريس لفكرة «الرحمانية» المنتهية إلى الرحم الواحد ثم فكرة قبلية الأمة أو أسبقية خلقها على الأفراد أنفسهم ثم تحولها لمعنى مطلق يتجاوز فكرة الزمن وهو ما يدفعها فى النهاية إلى أن ترسف تحت أغلال المثالية التى تعيد إنتاج الماضى وهى تعتقد بتجددها. من هنا أتصور أن الأمة العربية تحتاج أشد ما تحتاج إلى تفعيل قانون «الانتخاب الطبيعي». ورغم ما فى هذا التعبير من قسوة تضاهى قسوة علماء البيولوجيا الذين اخترعوه، إلا أنه يظل واحدا من حتميات استمرار الحياة على هذا الكوكب. فالكائنات الحية، كما يقول «كارل بوبر»، تتطور عن طريق المحاولة والخطأ، وعادة ما يتم استبعاد محاولاتها الخاطئة عن طريق استبعاد الكائن حامل الخطأ، وأظن أن أمتنا فى أشد الحاجة إلى تلك الاستئصالية الحميدة. لمزيد من مقالات محمود قرنى