تشير نتائج عمليات القصف الجوي التي تقوم بها قوات التحالف السعودي ضد مواقع الحوثيين في اليمن إلي نجاح هذه القوات في وقف عملية الهجوم علي مدينة عدن، وإلزام الحوثيين بالتراجع عن أبواب المدينة بعد استيلائهم علي منطقة لحج، كما تشير إلي تدمير عدد من مراكز القوات ومعسكراتها، لكن الأكثر أهمية من ذلك نجاح القصف الجوي في تدمير قواعد ومنصات الصواريخ متوسطة المدي التي نصبها الحوثيون علي الحدود اليمنية السعودية، ويصل مداها إلي حدود يمكن أن تصل إلي الرياض، وتؤكد كل الدلائل أن إيران أمدت بها الحوثيين ضمن خططها لتهديد أمن السعودية ودول الخليج. ولا يبدو أن قوات التحالف تخطط لتدخل وشيك لقوات برية، علي أمل أن تنجح عمليات القصف الجوي في ردع الحوثيين واجبارهم علي الانسحاب من عدنوصنعاء، وامتثالهم للشرعية الدستورية، والاعتراف بسلطة الرئيس عبد ربه، وتسليم الأسلحة الثقيلة التي حصلوا عليها من معسكرات الجيش اليمني، ويكاد يكون اسهام مصر في عملية الهجوم علي الحوثيين حتي الآن، وقفا علي الدوريات البحرية التي تقوم بها عدد من قطع الأسطول المصري لتأمين باب المندب، وحراسة شواطيء السعودية بامتداد البحر الأحمر لمنع أية عمليات تخريبية تأتي من البحر، وإن كان المصريون أبدوا استعدادهم للمساهمة بقوات برية (إن لزم الأمر)، لكن الواضح حتي الآن أن استراتيجية عملية عاصفة الحزم تركز علي عمليات القصف الجوي بهدف ردع الحوثيين، وإلزامهم وقف القتال، ولا تمانع الرياض إن امتثل الحوثيون في دعوة كل الأطراف اليمنية إلي مؤتمر للمصالحة يعقد في الرياض لاستئناف العمل بمبادرة الدول الخليجية ضمانا لأمن اليمن واستقراره. ورغم ذلك ثمة مخاوف مصرية وعربية من أن تكون عملية اليمن فخا جديدا يستهدف جر القوات البرية المشتركة إلى عملية استنزاف يطول أمدها، ويتكرر ما حدث للقوات المصرية خلال الستينيات، عندما بدأ الأمر بتدخل عسكرى لقوة مصرية محدودة، ذهبت لمساندة الثورة اليمنية التى قادها عبدالله السلال ضد حكم أسرة حميد الدين، تمثلت طلائعها فى كتيبة معروفة باسم «كتيبة سند»، استهدفت الوصول إلى مدينة مأرب فى أقصى شرق اليمن لسد الطريق على الامدادات العسكرية القادمة من امارة بيجان بمعاونة أساسية من قوات الاحتلال البريطانى التى كانت تحتل مدينة عدن، لكن الكتيبة حوصرت فى منطقة رأس العرقوب البالغة الوعورة قبل أن تحتل بئر الشيخ صالح مصدر المياه الوحيدة فى المنطقة. الأمر الذى تطلب ارسال المزيد من القوات لتبدأ حرب استنزاف طويلة أدت إلى ارتفاع عدد القوات المصرية فى اليمن إلى حدود 150 ألفا، يشتبكون فى حرب عصابات فى مناطق جبلية وعرة ضد تحالف قوات الملكيين التى شملت معظم القبائل الزيدية شمال اليمن، يقودها الشيخ ناجى بن على القادر شيخ مشايخ قبائل الاعروش، وجهم ونهم بينما يخطط الاسرائيليون لحربهم على مصر عام 67 فى غيبة جزء مهم من قواتها المسلحة المنشغلة بحرب اليمن. وربما يكون من المفيد أن نلقى نظرة سريعة على مسرح عمليات القوات المصرية فى اليمن، التى تركز معظمها فى مناطق الشمال أو اليمن الأعلى كما كانوا يسمونه قديما، حيث تسكن فى هذه المناطق الوعرة شديدة الفقر والتخلف والجفاف عدد من القبائل الزيدية، يعتنقون المذهب الزيدى واحد من فروع الشيعة المتعددة، يعيشون على الحرب والقتال، يحاربون بعضهم بعضا إن لم يجدوا من يحاربونه فى عمليات يسمونها «الخطاط» والخطاط باختصار هو أن تغزو قبيلة قبيلة أخري، تحتل أرضها وتنهب دورها وتسرق بهائمها ولا تغادرها إلا أن تصبح خاوية من عروشها. وأثمن ما يملكه القبلى فى الشمال سلاحه الذى يتمثل فى بندقيته الآلية «الكلاشنكوف» لا تغادر كتفه، بينما يتمطق بحزام عريض من الجلد يحتوى على غمد خنجر حاد، عادة ما يكون مقبضه من العظم والعاج، ويمكن أن يكون من الفضة أو الذهب حسب مكانته فى القبيلة، ومع الأسف فإن واحدا من نتائج الحرب بين الجمهوريين والملكيين خلال الستينيات التى استدعت بقاء القوات المصرية فى اليمن، ان أصبحت معظم قبائل الشمال مدججة بالسلاح، يملك بعضها مدرعات ومدافع مضادة للطائرات ونظم اشارة تتمثل فى أجهزة اتصال وانذار.. وتلتزم قبائل الشمال نظاما طبقيا صارما، يضع القبيلى المحارب فى الصدارة له المكانة الفضلى؟. قبل التاجر والحرفى والمتعلم مهما تكن درجته العلمية، وتعاف قبائل الشمال أكل السمك أو أى من أحشاء الخراف، وغذاؤهم المفضل لحم الضأن، وعادة ما يعلق القبيلى فى صدره كيسا صغيرا من القماش يحوى بعض الدخن «نوع من الأذرة الرفيعة» المخلوط ببعض بالزبيب تمثل قوته عند السفر أو القتال. ويشكل الحوثيون نسبة لا تتجاوز 2% فى المائة من الزيديين، بينما يشكل الزيديون سكان المناطق الجبلية فى الشمال 20 فى المائة على الأكثر من سكان اليمن، أما غالبية اليمنيين فيسكنون «اليمن الأسفل» المنطقة الممتدة من مدينة زمار جنوبصنعاء إلى تعز إلى عدن وباقى محافظاتالجنوب اليمنى وصولا إلى حضر موت، وهم فى الأغلب شوافع يدينون بالمذهب الشافعى ويعتنقون المالكية، يسكنون السهول ويزرعون أراضيهم ويصيدون فى البحر، ويعملون بالتجارة، ويهاجر شبابهم إلى الخارج بحثا عن فرصة عمل، وجهتهم فى الأغلب مدينة كارديف فى بريطانيا حيث يعملون فى مناجم الفحم، ونسبة كبيرة من سكان اليمن الجنوبى يهاجرون إلى شرق افريقيا وصولا إلى تنزانيا معظمهم من حضرموت أشطر تجار العالم الذين عملوا منذ مئات السنين فى تجارة الافاويه والبخور والعطارة كما عملوا فى التشييد والمقاولات، وبعضهم صنع فى المهجر ثروات طائلة، أبرزهم أسرة بن لادن فى السعودية، ومن بين شوافع الجنوب خرج معظم المثقفين والمتعلمين، وبدأت الحركة الوطنية جنوبا وانتقلت بعد ذلك إلى الشمال، وقادها فى مطلع القرن الماضى تحالف ثنائى ربط بين الأستاذ أحمد النعمان أقدم مثقفى اليمن وثوارها والشيخ محمود الزبيرى أحد رجال الدين فى صنعاء الذى قاد مع زميله النعمان المعارضة ضد حكم الامام أحمد حميد وكان الشيخ الزبيرى هو الذى رافق أول كتيبة مصرية وصلت إلى اليمن «كتيبة سند» فى أول عملية عسكرية لها، بهدف الوصول إلى مأرب، لكن ناجى بن على القادر قائد قوات الملكيين فى الشرق سد الطريق عليها فى منطقة رأس العرقوب الوعرة ومنعها من الوصول إلى مأرب. ولأن الشوافع يمتهنون الزراعة والصيد، خلعوا منذ زمن الجنابية ولا يحتفظون فى الأغلب بهذه الخناجر التى يحرص أهل الشمال على ارتدائها ويعتبرونها أول ملامح وخصوصيات الشخصية اليمنية، كما أنهم لا يحرصون على اقتناء السلاح إلا من باب الوجاهة وتحول معظمهم من القبائل إلى الأسر. وأيا كان حكم التاريخ على عملية التدخل العسكرى المصرى فى اليمن وآثارها المحتملة على الهزيمة التى منيت بها مصر إبان العدوان الاسرائيلى عام 67، فالأمر المؤكد أن وجود القوات المصرية لحماية الثورة اليمنية فى نقل اليمن من وراء التاريخ ووضعه على مشارف دولة حديثة، لأن القوات المصرية اعتبرت نفسها فى مهمة مقدسة لمعاونة شعب شقيق، ولم تتصرف أبدا كقوات احتلال، أنشأت المدارس وعلمت البنات ورصفت الطرق وعاونت فى تطوير الزراعة، وأسهمت فى تشكيل الجيش اليمنى الحديث، وأنشأت أول صحيفة يمنية، لم يترك المصريون وراءهم فى اليمن سوى الذكرى الطيبة والتضحية بالنفس دفاعا عن حق الشعب اليمنى فى الحياة، وبسبب هذه العلاقات الحميمة التى تربط الشعب اليمنى بمصر، تمكنت القوات المصرية عام 73 من اغلاق باب المندب. وحده على عبد الله صالح الرئيس السابق لليمن، هو الذى تنكر لمصر كما تنكر لوطنه اليمن، وحرص على أن يجعل من اليمن مأوى لجماعات الارهاب، ومحطة تتوقف فيها هذه الجماعات فى طريق الذهاب والعودة من أفغانستان، وقاعدة لتهريب السلاح إلى الجماعات المتطرفة فى مصر «الجماعة الاسلامية» يأتيها من إيران إلى اليمن إلى السودان إلى طريق الأربعين وصولا إلى مدينة أدفو. ومع الأسف عندما طلب الرئيس السابق حسنى مبارك من الرئيس اليمنى وقتها على عبد الله صالح وقف إيواء هذه الجماعات التى كانت تتم من خلال الشيخ عبد المجيد الزندانى شيخ جماعة الاخوان المسلمين فى اليمن، طلب على عبد الله صالح فى المقابل من الرئيس مبارك أن تسلم مصر عددا من أعضاء المعارضة المقيمين فى مصر رغم أنهم لم يكونوا يمارسون أى نشاط سياسى ولأن مبارك رفض العرض استمر على عبد الله صالح فى سياساته البهلوانية يستخدم منظمات الارهاب ويجعلها جزءا من لعبته فى الحكم والسياسة ليرفع بها ثمنه مع واشنطن، إلى أن بلغ الأمر حد التواطؤ مع الحوثيين والحرب إلى جوارهم وتشجيعهم على احتلال عدن بعد احتلالهم لصنعاء! ولأسباب كثيرة لا أتصور أن ما حدث مع القوات المصرية فى اليمن خلال الستينيات يمكن أن يتكرر مع القوات العربية، سواء ضمت قوات مصرية تقف على «مسافة السكة» من أى مساندة تطلبها السعودية أو الامارات أو الكويت أو لم تضم.. صحيح أن العناصر الأساسية فى مسرح العمليات «اليمن الشمالي» لم تزل هى هى لم تتغير، لأن الجغرافيا ثابتة ولأن البشر فى مثل هذه الظروف والأماكن يتطورون ببطء شديد، لكن الواضح حتى الآن من استراتيجية قوات التحالف السعودي، أنها تؤثر أولا الاعتماد على القصف الجوي، وفرا فى الكلفة والوقت والخسائر، وتستهدف ثانيا ردع الحوثيين وإلزامهم الخضوع للشرعية الدستورية والاقرار بسلطة الرئيس اليمنى والتوقف عن الحرب.. وليس للمملكة السعودية، فى حدود علمي، ما يحول دون قبول الحوثيين جزءا من الوطن اليمنى يتصالحون مع باقى فئات الشعب اليمني، لأننا لسنا إزاء حرب بين الزيديين والشافعيين، أو بين سكان اليمن الأعلى وسكان اليمن الأسفل، ولكننا إزاء تجمع قبلى محدود خرج عن السلطة الشرعية وانقلب عليها لا يشاركه فى أهدافه أى من فئات الشعب اليمنى الأخري، لأن غالبية الشعب اليمنى تعرف جيدا أن الإيرانيين هم الذين يقفون وراء الحوثيين، وهم الذين يمدونهم بالأموال والأسلحة على أمل أن يصبحوا ركيزة لتقود إيرانجنوب الجزيرة، وشوكة فى ظهر الأمن الوطنى السعودي، فى محاولات إيران لتوسيع قوتها فى منطقة الشرق الأوسط على حساب الأمن العربي، واستعادة دورها القديم شرطيا لحراسة منطقة الخليج فى اطار سياسات إيرانية جديدة تريد التصالح مع واشنطن بأى ثمن، لكن العامل الحاسم والرئيسى الذى ربما يغنى عن الحرب البرية، أن الحوثيين الذين لا يتجاوز عددهم 2 فى المائة من القبائل الزيدية التى تسكن شمال اليمن وتشكل 20 فى المائة من سكانه لا يشكلون خطورة بالغة، طالما أن القبيلتين الزيديتن الأساسيتين فى الشمال «حاشد وبكيل» لا يحاربان إلى جوار الحوثيين على العكس ثمة خلاف عميق بين قبيلة حاشد والحوثيين أدى إلى اندلاع الحرب بينهما، فضلا عن العلاقة الوثيقة التى تربط الشيخ عبدالله الأحمر شيخ مشايخ حاشد بالسعودية، لذلك سوف تبقى محاولات الحوثيين مجرد حالة تمرد محدود يسهل تطويقها، والأكثر أهمية من كل ذلك أنه خلال الستينيات كان طرفا المواجهة الأساسية فى اليمن، مصر والسعودية اللتين استنزفتا كثيرا من جهدهما فى هذه الحرب العبثية التى بددت علاقة التواصل بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والملك فيصل يرحمه الله، وباعدت بين مصر والسعودية الثقلين الأساسيين اللذين يضبطان ايقاع العالم العربي، وأفقدت العالم العربى توازنه واتزانه، وخلقت حالة من الاستقطاب الحاد بددت التضامن العربى لفترة طويلة إلى أن تم ردم هذه الهوة فى حرب 73، بفضل جهود الرئيس السادات الذى نجح فى اصلاح علاقات مصر بالسعودية، وعادت السعودية لتقف إلى جوار مصر والسادات خلال حرب 73 وتشهر لأول وآخر مرة سلاح البترول الذى ساهم كثيرا فى تحقيق نصر تاريخى أعاد للعرب ولمصر الأرض والكرامة..، والآن تقف مصر والسعودية فى خندق واحد دفاعا عن شرعية الحكم اليمنى بما يؤكد أن الأوضاع قد اختلفت على نحو شامل، بحيث يصعب أن يتكرر ما حدث للقوات المصرية فى اليمن خلال الستينيات.