باستثناء بعض اتفاقيات الاستسلام التى تتسبب عادةً فى تجدد الحروب لم يحدث أن خرج طرف فى اتفاقية ثنائية أو متعددة الأطراف فائزاً بكل مطالبه،بل اضطُر لتقدّيم تنازلات مثلما حصل على مكاسب.ولم تشذ اتفاقية المباديء الخاصة بسد النهضة بين مصر وإثيوبيا والسودان عن هذه القاعدة حيث حصلت القاهرة على تعهد إثيوبى كتابى بعدم الإضرار المحسوس بحقوقها التاريخية المكتسبة فى مياه النيل، وفى المقابل حصلت أديس أبابا على موافقة مصرية سودانية على بناء السد مع انتظار التقرير النهائى للجنة الخبراء الدولية حول آثاره المحتملة على تدفق المياه والبيئة، وهو ما يفتح الباب أمام تلقى مساعدات من الجهات المانحة لتمويله ما لم تحدث خلافات عند وضع اتفاقيات تفصيلية أو لدى تنفيذها. اتفاق المبادئ نصّ أيضاً على تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدوليين بشأن الآثار السلبية التى قد تُثبتها الدراسات المقررة على البيئة المحيطة وتدفق مياه النيل الأزرق نحو مصر والسودان والعمل على معالجتها.كما أشرك القاهرة والخرطوم فى وضع قواعد تشغيل السد وملء بحيرته لمنع حدوث نقص فى المياه أو تأخير وصولها بقدر لا تحتمله أى منهما حيث ينص على التنسيق بين تشغيله وتشغيل السدود المصرية والسودانية ومراعاة مستوى المياه فى بحيراتها من خلال إنشاء آلية تنسيق دائمة بين الدول الثلاث حتى لا ينخفض بالقدر الذى يقلل من كفاءتها فى توليد الكهرباء.يضاف إلى ذلك أن الاتفاق لم يتعرض بسوء للاتفاقيات الموقعة فى زمن الاستعمار، خاصةً اتفاقيات 1891 و1902 و1929 التى تتطلب موافقة مصر على أى سدود ومنشآت تقيمها إحدى دول المنابع على مجرى النيل أو روافده أو فروعه من شأنها أن تنقص المياه أو تؤخر وصولها إليها . وكذلك اتفاقية 1959 التى حدّدت حصتها المائية ب 55.5 مليار متر3 سنوياً.كما نصّ على أن تتعاون الدول الثلاث فى استغلال مياه النيل وفقاً لمبادئ القانون الدولى وعلى أساس تفهم الاحتياجات المائية لدول المصب والمنبع معاً، وتضمن الالتزام بمبدأ عدم التسبب فى إلحاق ضرر ذى شأن بأى طرف وأن تتخذ الدول الثلاث كل الإجراءات المناسبة لتفادى حدوثه وللتخفيف منه بل والبحث فى مسألة تعويض الطرف المتضرر. هذا لا يعنى أن الاتفاق حقق لمصر أو لإثيوبيا كل ما تتمناه،فقد تضمّن عبارات لم تكن مرغوبة وتجاهل أخرى كانت مطلوبة لكى يلتقى الطرفان فى منتصف الطريق.تضمّن عبارة الاستخدام المنصف والمناسب لمياه النيل كمطلب إثيوبي، وهى عبارة قريبة من تلك الواردة فى اتفاقية «عنتيبى» التى رفضتها مصر لأنها تطالب بإعادة توزيع المياه بين دول الحوض وتُلغى ما ورد فى الاتفاقيات الموقعة فى زمن الاستعمار وبعده.كما نصّ على «احترام وتنفيذ» توصيات لجنة الخبراء الدولية وليس «الالتزام بتنفيذ» تلك التوصيات بدعوى أن كلمة «التزام» تُنقص من السيادة الوطنية للدولة، وتجاهل ذكر حصة مصر المائية صراحةً لكنه لم ينص على إلغائها.ولم يشر الاتفاق إلى تعاون كان منتظراً فى مشروعات لاستقطاب جزء من مياه الأمطار الفاقدة فى المستنقعات والفوالق الجبلية بإثيوبيا، تُقدّر بمليارات الأمتار المكعبة،لمصلحة البلدان الثلاثة عسى أن يضيف الى حصتى مصر والسودان ما يعوّض ما قد يقتطعه سد النهضة وما قد يتبعه من سدود من المياه خاصةً خلال فترات ملء بحيراتها لأول مرة. أمّا فيما يتعلق بالخلافات التى قد تطرأ عند تنفيذ الاتفاق أو ما يليه من اتفاقيات أوعند تنفيذها فقد نصّ على تسوية أى نزاع عن طريق التشاور فالتفاوض ثم الوساطة فالتوفيق ولم يذكر شيئاً عن إمكانية اللجوء للتحكيم الدولى أو محكمة العدل الدولية أو التعهد بالالتزام بأحكامها، كما يُعوّل على حسن النيات وتفهُّم كل طرف لاحتياجات الطرف الآخر المائية وهو ما يجعل التنفيذ مرهوناً بأهواء من بيده الأمر وبمدى حُسن علاقته بالآخر أو سُوئها. حُسن النية وتفهُّم الاحتياجات سيتطلب علاقات وثيقة ومنفعة متبادلة وتوافقاً سياسياً رفيعاً بين مصر وإثيوبيا حتى يمكن تنفيذ الاتفاق بروحه الحقيقية أكثر منه امتثالاً لقواعد القانون الدولي، لذلك يحتاج تنفيذه وما يتبعه من اتفاقيات إلى تقارب سياسى أوثق وتعاون اقتصادى أقوى واستثمارات أسخى وتبادل تجارى أوسع لتدعيم الروابط بين الشعبين ولتأكيد أن أى خلاف حول السد أو استغلال مياه النيل بوجه عام سيحرمهما من ثمار التعاون فى التنمية ورفع مستوى المعيشة، وهذا يمكن انجازه بتحقيق طفرة فى حجم الاستثمارات المصرية فى إثيوبيا والواردات منها بقدر يتناسب مع إمكانات البلدين وعدد سكانهما (180 مليوناً) وتقديم مساعدات فنية أكبر، خاصةً فى مجال الطب ومكافحة الأمراض وتقديم المنح التعليمية، فليس معقولاً ألاّ يتجاوز حجم الاستثمارات المصرية مليارى دولار فى بلد يملك 15% من إجمالى ثروة إفريقيا من الماشية و65% من مساحة أراضيه قابلة للزراعة بمحاصيل متنوعة تتوافر لها المياه والتربة الخصبة، وليس مقبولاً ألاّ يتجاوز حجم صادراتنا تسعين مليون إثيوبى 1% فقط من وارداتهم الخارجية وأن يقف حجم التبادل التجارى السنوى بين البلدين عند 300 مليون دولار فقط. لمزيد من مقالات عطيه عيسوى