قام جمال حمدان بتعليمنا أن الجغرافيا هي التاريخ عندما تجمد، فصار أرضا وبشرا . وكثيرا ما توقفت عند شامبليون ، الذي أهدانا قدرة قراءة تلك اللغة التي انتقلت بها حضارة قدماء المصريين من تلخيصها بالجهل على أنهم «مساخيط » إلى تأسيس علم المصريات بكل أوجه عظمته ، فكانت الحفائر الكاشفة لما على الجدران من رسوم وما على الأرض من تماثيل ومعابد .وكان من عجائب الأمور أن دنيا التحضر قد انزعجت حين انفصلت ذقن توت عنخ آمون عن رأسه في القناع الذي يحتل مرتبة متقدمة من أندر الأثار العالمية، وصاحب ذلك مشهد هزلي دموي ، حين حملت لنا شاشات الأخبار مشاهد التخلف الصاعق لعمليات هدم آثار ليس لها نظير في العراقوسوريا . وربط تفكيري على الفور بين حماقة إساءة استخدام الدين وهي تتطابق مع كراهية الدولة الكبرى في عالمنا لكل ما هو « تاريخي» فالولاياتالمتحدة تفتقد التاريخ ، وتحاول ألا تتذكره ، لأن تاريخ الأوائل الذين هاجروا إليها ، فعلوا مع سكانها مثلما فعلت وتفعل إسرائيل مع أهل فلسطين، وأبادت حضارة كانت موجودة ، وكان من أبرز سماتها احتقار الذهب إن كان طريقا للتقاتل ، فالحياة هي الثروة التي علينا ان نقتسمها جميعا ، لكن الذين قدموا من أوروبا، قدموا الخرز لرؤساء القبائل ثم ذبحوا الرؤوس من بعد ذلك . وتصادف الخبران ، خبر دقن توت عنخ آمون وخبر هدم داعش لآثار العراقوسوريا ، فسافرت بي التذكارات إلى حوار قديم بيني وبين صديقي الطبيب النفسي الكبير محمد شعلان ، الذي عاش في الولاياتالمتحدة طالبا ثم عالما ، ثم رافضا لجنسيتها ليعود كمؤسس لقسم الطب النفسي بجامعة الأزهر ، قال لي : نعم يكرهون التاريخ ويحاولون العثور على قفازات بشرية بأقنعة تنتمي إلى شعوب أخرى ، ثم يحولون تلك القفازات إلى خناجر تنغرس في لحم ثقافات الغير لتمسخها أو توجه بوصلتها إلى الهدف الأمريكي القادم في سياستها ، وكان ذلك الحوار في صبيحة تفجير « جماعة طالبان» لتمثال بوذا الأشهر في أفغانستان . ذكرني محمد شعلان يومها بما حدث في أوائل الثمانينيات حين ظهرت صورة بوش الأب أيام أن كان مديرا للمخابرات الأمريكية وهو يمسك بمدفع رشاش واقفا بأحد مواقع القتال ضد الروس في أفغانستان ويصرح «لقد جئت إلى هنا لأدافع عن الإسلام» وكان دفاعه هو تجنيد قيادات طالبان والقاعدة لتحقيق أهداف أمريكية ، ثم انقلب السحر على الساحر لتنقض طالبان والقاعدة على الولاياتالمتحدة ، وكانت جماعات التأسلم الطالباني غارقة في الغياب العقلي لا بفعل المخدرات التي يزرعها كبار رجالها فقط ، ولكن بدعوى زعيم طالبان أنه يملك عباءة سيد البشر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وتلك إشارة اختياره كخليفة للرسول الأكرم. وبطبيعة الحال كانت الولاياتالمتحدة أيامها مستريحة من جهة العالم العربي ، نافذة في خلايا سلطاته ، بفضل اختزال الأوطان في أشخاص قادة مثل صدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي ، وهم حكام قادرون على زيادة الترهل العربي ، ولنعيش قرابة الأربعة عقود ظهرت خلالها بدايات التوريث الذي ظهر صاعقا في سوريا وكان ينمو بالعراق ويستعد به معمر القذافي ليأخذ أحد أبنائه مكانه ، أما في مصر المحروسة فقد عشنا جميعا لعبة تزييف «الفكر الجديد» الذي اختزل ثروة المصريين في قلة من المحاسيب وأصحاب الحظوة ، ثم انفجر الأمر كله بخروج الجموع لتسقط مبارك ، ولا تكتفي بذلك ، بل تسقط معه الحلم الأمريكي بتمزيق المشرق العربي بسكين التأسلم السياسي . وتجلت «كراهية التاريخ« في اتفاق ضمني على «كراهية الحياة» سواء من قبل المتأسلمين أو من وجدان الذين امتلكوا ناصية التقدم العلمي والتكنولوجيا، فهما وجهان لعملة واحدة ، عملة كراهية الحياة بالتوجه إلى تدمير التاريخ ؛كبداية أولية لطمس وجدان الشعوب . وكان هذا الأمر مثار حوار بيني وبين آدم حنين الفنان المثال المصري الذي عاش شبابه متصوفا على جزيرة في أقصى نيل مصر ، في تجربة روحية وفنية قام بها ليرى مستقبله كنحات مصري معاصر ، وهو من تسلم أزميل النحت لا من أجداده المصريين القدماء وحدهم كما فعل من قبله محمود مختار ، ولكن كانت هناك إضافة دراسة أثر النور على الحجر ، وكيف يمكن لضوء الشمس النقي أن يعيد تشكيل الرؤية ، أليس ذلك هو ما فعله المثال المصري القديم حين قدم كل أوجه القداسة بحركة النور على الحجر واللون ؟ وتألق إبداع آدم بما يفوق الخيال أثناء تواجده بتلك الجزيرة القابعة وسط النيل ، ليعود إلى القاهرة بقطع نحتية تهدي العين بصيرة بجانب البصر، وتضيف للوجدان شموعا من صفاء ، لكن هزيمة يونيو تدهمنا فيتركنا آدم إلى باريس ليمثلنا هناك عبر النحت ولينال مكانة عالمية تضعه بجانب كبار من مروا بتلك الرحلة، رحلة النور على الحجر ، وكيف يمكن لما أهدته لنا السماء من ضوء أن يهدي النفس سكينة ثم إشراقا . ولم يعد آدم إلى مصر إلا عندما بدأ ترميم أبو الهول سيد منحوتات القدماء في التآكل ، وضغط بريق الإعلام على من يقومون بترميم «أبوالهول» فكادت البيروقراطية مع الجهل تفسد « أبو الهول» فعاد آدم ليدرس «كيمياء الحجر» ويعيد ترميم أبو الهول ليتم إنقاذه وليستمر خالدا. ولم يتأخر آدم عن حلمه القديم ، ألا وهو دعوة فناني العالم كي يلعبوا مع أحجار الجرانيت بأسوان ليكتشفوا كيف عاش الفرعون القديم ليرى ما عجزت حضارات عن رؤيته ، فيؤسس «سمبوزيوم أسوان» من خلال صندوق التنمية الثقافية ، وليمر عشرون عاما أنتج فيها هذا الملتقى الفني عشرات التماثيل كشاهدة على أن أرض مصر هي القادرة على تنقية العين القادمة من بلدان العالم ، وتهبها قدرة رؤية النور وهو يكتشف في الحجر ما لاتراه العين العادية ، فنملك متحفا مفتوحا يندر وجود مثله في القارات الخمس. وفي حوار بيني وبين آدم يتدخل تلميذه الذي لا يقلده بل يكتشف طريقه الخاص وهو النحات إيهاب اللبان ليقول: إذا كنا قد دعونا فناني الكون ليصنعوا معنا خلال عشرين عاما هذا المتحف المفتوح ، وإذا كنا نبني الآن متحفا لحضارة المصرية بكل مراحلها ، لما لا نطلق مسابقة بين النحاتين المصريين ليقدم كل منهم تمثالا فرعونيا برؤية معاصرة ، فمن أحب توت عنخ آمون فليقدم لنا رؤيته المعاصرة لهذا الملك الطفل ، ومن أحب حور محب فليقدم رؤيته المعاصرة لهذا المقاتل المؤسس لكرامة مصرية لم يستطع التاريخ محوها ، ومن أحب حورس المنتقم من شرور عمه القاتل لأبيه ، فليقدم رؤيته لهذا الابن الحارس للأمل والقدوة في آن واحد . ويمكننا أن نقيم معرضا لهذا الإبداع المعاصر ونحن نفتتح المتحف الكبير الذي يجري بناؤه حاليا . ضحكت لإيهاب اللبان قائلا: وهل هناك وقت لمثل هذا الإبداع ؟ أجابني إيهاب ولأزيدك في عشق الأمل حلما آخر . ألا ترى أن الحملة الفرنسية التي امتلكت بعلمائها «وصف مصر» منذ قرنين من الزمان ، يمكن أن تثير فينا القدرة على إعادة وصف مصر بعيون شبابها وعلمائها عبر مشروع ثقافي علمي يلتحق به شباب الفنانين والعلماء ، لنرى كيف زاوج المصري القديم بين الحدس وبين التقاليد وبين العادات ما جعل الحضارات تمر عليه لتتعلم منه ؟ لماذا لا نعيد «وصف مصر» في زماننا ، وقد علمنا الكون أننا شعب غير قابل لأن يعيد الآخرون صياغته على حسب أهوائهم بل نحن قادرون على تعليم العالم أننا لم ننتصر فقط بثورة الخامس والعشرين من يناير ، بل ألحقناه بإزاحة التخلف باسم التأسلم من قمة السلطة في بر المحروسة ؟ أقول لآدم وإيهاب : الحوار مع الفنانين يمنح الكثير من الأفكار ، لكن كل فكرة تحتاج إلى دراسة وقرار . وحين أنهيت كلماتي كان القرار قد صدر بتولي د. عبد الواحد النبوي لوزارة الثقافة ، فسألت أستاذه د. صابر عرب عن قدرته على أن يضع في جدول أعماله مثل تلك الأفكار ، قال صابر عرب : إنه أستاذ توثيق ، وهل هناك توثيق أدق من قدرة الفن على مخاطبة التاريخ ؟ وهل هناك توثيق أدق من خبرة إعادة وصف مصر بعد كل ما جرى ؟ ., لمزيد من مقالات منير عامر