عملية المتحف التونسى «باردو» التى راح ضحيتها سياح وتونسيون، تؤكد أن التكفيريين المسلحين يسعون لإجهاض تجربة الإسلاميين «التقليديين» فى السلطة فضلاً عن أن داعش تسعى لزيادة نفوذها فى إفريقيا بالتزامن مع ما يحدث فى نيجيريا وليبيا ومصر، وكذلك رداً وثأراً من تونس لموقفها الأخير إلى جانب مصر فى حربها ضد داعش فى ليبيا . الإسلام السياسى فى تونس بقيادة الغنوشى حاله أفضل من مصر لأنه مندمج فى العملية السياسية وقدم تنازلات لإنجاح التجربة وحسم خياراته مبكراً وسريعاً لتفادى الوقوع فى أخطاء الإخوان فى مصر، وموقفه هذا قلل كثيراً من فرص الإرهابيين ومن نفوذهم، وبالمقارنة نجد نفوذ الارهابيين والتكفيريين فى مصر أقوى وحضور العمليات الإرهابية أعنف وبشكل يومى نظراً لموقف الإخوان وإصرارهم على المفاصلة والصدام حتى النهاية مع الدولة وإعطاء المبررات للآخرين بالخروج عليها، فضلاً عن اللعب بورقة فشل الإسلاميين سياسياً ليتصدر المشهد خيار العنف والرصاص والتفجيرات . أرى أن عملية بهذا الحجم فى تونس وفى هذا التوقيت استهدفت فى الأساس العملية الديمقراطية وربما نجاح «حركة النهضة» فى الاندماج فى المشهد السياسى بما قد يدعم إنجاح التداول والعملية السياسية بشراكة «إسلامية» وهذا السيناريو يسعى التكفيريون و«داعش» بصفة خاصة - لإجهاضه ليظل الصدام والمفاصلة هو الحل ولتبقى «داعش» هى متصدرة المشهد وليقضوا على نموذج التغيير السلمى الذى أعقب ثورات الربيع العربى فى عقر داره .. ليتحول الأمر من مجرد تغيير سلمى إصلاحى متدرج الى انقلاب دراماتيكى دموى. بالمقارنة بين العنف والإرهاب وحجمه بين مصر وتونس نجد الفارق كبيراً جداً؛ فالعمليات فى تونس محدودة بوجه عام بعكس ما حدث ويحدث بمصر، نتيجة لاختلاف موقفى الإخوان وحركة النهضة، فهذه أسهمت بانفصالها عن الواقع فى تغذية الإرهاب ومساراته، وتلك أسهمت باندماجها فى التقليل منه والحد من نفوذه. شعبية حركة النهضة لن تتأثر كثيراً كما تأثرت شعبية إخوان مصر باعتبار النهضة اتخذت طريقاً مختلفاً عن طريق إخوان مصر بتفضيلها المشاركة السياسية حتى ولو من موقع المعارضة، بدلاً من الدخول فى تجربة شبيهة بما حدث فى مصر والتى منحت الفرصة للتكفيريين ليزداد نفوذهم على حساب فشل الإخوان السياسى. فى الجلسة المسائية الطارئة للبرلمان التونسى لبحث الأزمة وإيجاد صيغة وطنية جماعية للتعامل مع الحدث، استمعنا لمداخلات الكثير من النواب التى تصب فى التصميم وقوة الارادة التونسية لإنجاح التجربة والنهوض والصمود بها فى وجه التحديات .. وأول وأهم وأخطر التحديات هو الإرهاب الذى صار أقوى الأوراق التى يلعب بها مناهضو الاستقرار والتنمية والإصلاحات السياسية فى البلاد العربية، وعندما ينجحون فى الحاق تونس بمصير ليبيا أو سوريا بسيناريو مشابه، فهذا نجاح منقطع النظير للغرب الذى استطاع السطو بمهارة على مكتسبات الشعوب العربية من ثوراتهم وتضحياتهم بتوظيف كوابيس الإرهاب والدم والتفجير والتفخيخ . لكن أحد النواب التونسيين تحدث بغضب شديد وإنكار أشد فى اتجاه قطر نقلت الجلسة الجزيرة مباشر مطالباً إياها برفع يدها عن تونس ووقف تمويل «الإرهابيين» وأعقب كلمته تصفيق جماعى حاد من أعضاء البرلمان! هذا المشهد لا يعكس نفوذ قطر وتدخلاتها السلبية فقط بقدر ما يعكس مدى تأثير ما يحدث فى مصر على الساحة العربية، ومدى الأضرار التى نتجت عن تجربة «الإسلاميين» المصريين التى تخطت الداخل المصرى لتشكل وتؤثر فى مسارات وقناعات ومواقف الدول العربية والإسلامية الأخرى .. فارتدادات أحداث الواقع المصرية ستطول وطالت بالفعل تجارب الحركات الإسلامية فى جميع أنحاء العالم .. وأسوأ تلك الارتدادات ما تصيب الواقع التونسى الذى ظل الأمل معقوداً عليه فى ريادة التغيير والإصلاح والتوافق والاندماج والشراكة والتداول السلمى السلس .. مع تجربة إسلامية مختلفة عما يحدث فى سوريا وليبيا ومصر . عملية متحف «باردو» الإجرامية تستهدف التجربة التى حاول الغنوشى وحركته إنجاحها بالاندماج فى المشهد السياسى بفكر وتحرك توافقى وتنازلات مقابل امتيازات الشراكة السياسية .. ومن مصلحة الإرهابيين أن لا ينجح هذا الفصيل الإسلامى فى تجربة ديمقراطية وتداول سلمى للسلطة، حتى يظل مشروع الصدام وحلول المفاصلة والصراع المسلح متصدراً المشهد ولتظل الغلبة وقيادة الحركة الإسلامية من نصيب التكفيريين والتنظيمات المسلحة وإصابة مشروع مشاركة التيار الإسلامى فى المشهد السياسى الديمقراطى فى مقتل . تحاول داعش تحويل الأوطان الى ولايات تابعة للبغدادى.. فى مصر وفى ليبيا ونيجيريا والعراق وسوريا.. وفى تونس، وهناك فصائل وتيارات «إسلامية» تدعم هذه المساعى، وبالفعل هناك من يفكر بهذا الهوس، فمادام قد فشل سياسياً فلتسقط الدول والحكومات والأنظمة والحضارات والتراث والثقافات والأوطان ، لنتحول الى ولايات تابعة للبغدادى. لمزيد من مقالات هشام النجار