التزاماً بما تتيحه «البنية الفوقية» للمجتمع، من رؤى فكرية يمكن من خلالها رصد كيفية صياغة المجتمع لحركته صوب أهدافه، فيما يتجاوز حدود الهيكل المؤسسى للدولة، وصولاً إلى تجسيد التركيبة الأيديولوجية للمجتمع، تأتى «التحالفات» السياسية، صيغة تعترف الأدبيات السياسية برواجها فى ساحات إدارة الصراع السياسي، استناداً إلى ما يقدمه لنا الدرس التاريخى المقارن فى هذا الشأن. على خلفية ذلك، تبدو النسخة الأحدث من المقاربة المصرية لإنتاج تحالفات انتخابية «صحيحة المنشأ»، بعيدة عن قواعدها الدارجة؛ ذلك أن تحالفاً انتخابياً، لا ينبغى له أن يرتكز على غايات ومبادئ هى أقرب إلى تحالف معارض، أو غيره مؤيد للنظام الحاكم. كذلك ما كان للمقاربة المصرية فى التحول الديمقراطي، وقد أبت إلا «التحالف»، أن تتجاهل فروقاً جوهرية، لا يصح تجاهلها؛ فما بين تحالف خلف استحقاق رئاسي، وتحالف آخر برلماني، هوة سحيقة عمقها المصالح الوطنية العليا، بثوابتها الوطنية فى شكل الدولة ونظام الحكم فيها، وعرضها تباينات أيديولوجية صحيحة وصحية، فيما يشكل إجمالاً تكامل «البنية الفوقية» للمجتمع. فمن جهة أولية، ليس لتحالف انتخابى برلمانى أن يتجاهل وضع برنامج انتخابى موحد، على ما له من اهتمامات تفصيلية تتجاوز حدود «التأييد» للنظام الحاكم لإثبات الولاء للمصالح الوطنية العليا؛ فيما ينم عن غياب رؤى سياسية تعكس قناعات محددة وراسخة، ولعل فى ذلك ما يفسر شيوع اسم «مصر» فيما ترفعه التحالفات الانتخابية الأبرز، من عناوين لا تشى بمضمون خاص، من شأنه التعبير بصدق عن امتلاك أيديولوجية واضحة. ومن جهة أخرى، فإن تحالفاً انتخابياً برلمانياً، إذا ما نشأ عقب ثورة شعبية، بات واجباً احترام اختلاف المنابع الفكرية لدى أطراف التحالف، باعتبار ذلك الاختلاف يحول بالفعل دون «وحدة الأهداف»، كعنصر أساسى داخل مفهوم التحالف، أما إن حاز الأخير حده الأدنى من التوفيق بين تلك الأهداف، فهو بالكاد يمثل حد الكفاف، إذا ما كان التحالف بغرض إسقاط نظام حاكم، وهو الأمر الذى عكسه المشهد الداخلى بنجاح فى مواجهة نظام حكم الإخوان، حيث «جبهة الإنقاذ» نموذجاً. ورغم أن التحالف الانتخابي، برلمانيا كان أو رئاسيا، لا يضمر بالضرورة نية الاندماج بين أطرافه، تخطياً لخصوصيات تشكل قوام الهوية السياسية لأطرافه، إلا أن فى مواجهة استحقاق برلماني، بالقطع نرصد مسافات بعيدة، ما زالت تفصلنا عن إنتاج تيارات سياسية فى صورتها الأساسية، وهو أمر وإن كان قبوله ممكناً فى ظل حداثة التجربة المصرية، فإن قصوراً لا ينبغى التغاضى عنه نال من مصداقية التحالفات لدى الرأى العام، بدوافع ومبررات شتي. ليس بعيداً عن ذلك، الأثر المترتب على نجاح أنظمة متعاقبة فى هدم الكثير من القواعد الديمقراطية التى كان من الممكن البناء عليها؛ ومن ثم باتت الثورة المصرية «مُنشئة» لقواعدها، ما يدفعنا إلى قبول تجاوزات، مسموح بها إن هى ظلت فى إطار وطنى مانع، من دون أن تختلط ببقايا الدولة العميقة المناهضة لها، على نحو يطيل من أمد عملية التحول الديمقراطي، ويشكك فى صحة توجهاتها. كذلك كان التصارع على عدد المقاعد، وإن كان سبباً يطيب للكل إلحاقه بالآخر، إلا أنه بالقطع لم يكن وحيداً فى أثره غير المرغوب فيه، فيما شهدته الساحة الانتخابية من اضطراب، نال من التوقعات المرتقبة من برلمان أعقب ثورة شعبية عظيمة بشقيهاحملت على كاهلها أمالا وآلاما شديدة التعقيد، فى مضمونها، ومحيطها الخارجي، على السواء، فضلاً عن وصمه «بالفسيفسائية»، بينما هو يمثل شعباً لطالما وصف دائماً بالتجانس. فى السياق نفسه، ليس لنا أن نهدر تداعيات غياب مرجعيات مشتركة تضم أطراف كل تحالف انتخابي، إذ لا تصلح «المصالح الوطنية العليا» لصياغة تحالفات برلمانية حقيقية، لما فى ذلك من احتكار يصطدم بجوهر العملية الديمقراطية، ويفسح الطريق أمام بدء تراكمات تحيلنا إلى ما قبل الثورة، إن هى تغلبت على ما عداها من ممارسات ندرك بموجبها صحيح مرتكزات مفهوم التحالف، على نحو نستلهم منه كونه مفهوما إنسانيا بالأساس. وتفصيلاً لذلك، وعلى سبيل الإشارة، ليس لنا أن نهدر أن انسحاباً لبعض الأحزاب السياسية من تحالف «الجبهة المصرية» جاء جراء انتخاب، آخر رئيس حكومة فى عهد مبارك، رئيساً لحزب الحركة الوطنية، الرافد الأكبر لذلك التحالف، قابله هجوم شرس من «تحالف الوفد» على جبهة «فى حب مصر»، أعقبه سعيه الحثيث للانضمام إليها، ليس إلا «حباً فى مصر». بينما لم يفلح دفاع قائمة «فى حب مصر» فى نفى ارتباطها «بالدولة»، على نحو بات؛ غير أن استخدام مصطلح «الدولة» فى هذا المقام، صادفه قصور معيب ما كان ينبغى صدوره عن «نخب» سياسية، بدت لا تدرك حصراً دقيقاً لعناصر مفهوم «الدولة»، كوعاء جامع لشعب وإقليم وسلطة ذات سيادة، بينما الحال أن «النظام الحاكم»، ممثلاً فى الرئيس، وليس «الدولة»، هو ما شكل هاجساً مخيفاً، إذا ما كان داعماً لتلك القائمة، بينما الرجل يسبق «نخبته» محذراً من ثورة ثالثة حال الفشل فى تحقيق طموحات الشعب، ومن ثم باتت التجربة المصرية فى مشهدها الانتخابي، سجينة أدبيات لطالما ارتدت بذورها إلى ما قبل الثورة؛ فليس إلا «الدولة»، وكذلك «الحكومة»، مفاهيم ليست العنوان الصحيح لما يوجه لها من خطاب، إن هو حمل حقيقة ما يضمره البعض تجاه «مؤسسة الرئاسة»، بل صوب الرئيس تحديداً.! وعلى هذا النحو، هم يتبارزون ثم إذ بهم يتحالفون، ويتقاتلون ويعودون ليتحالفوا، وبينما هم يتحالفون فهم فى بعضهم يتشككون، ثم إنهم يتملقون الرئيس وهم منه يتوجسون، ورسائلهم إليه تكشف ما يخفون، وتشى أى «مصر» لحبها هم يتنازلون.! وها قد حكمت المحكمة وسوف نرى من جديد صراع الاصدقاء. فهل نتعلم الدرس؟ وهل نحمد الله لحكم الدستورية ؟ الذى حفظ ماء الوجه للكثيرين وانقذ اخرين من الذبح. لمزيد من مقالات عصام شيحة